ثمة مبنى على الشاطئ من ثلاثة طوابق به مجمع عيادات.
بالمجمع عدة تخصصات، غير أن عيادة اختيار فصيلة الدم،
والتحاليل، والأمراض النفسية والعصبية يجمعها قسم واحد، وقاعة انتظار واحدة حيث
يجلس العديد من المرضى وبعض مرافقيهم هناك.
كان بالقاعة طفل في حوالي السابعة من عمره يطوف بين
المنتظرين، ويحادثهم من حين إلى آخر، وحين لمح الكرسي الشاغر بجانب الرجل الأبيض
الشعر الجالس في الركن، تهالك عليه متطلعاً إلى الرجل بفضول، لكن الرجل الأبيض
الشعر، الذي لا يبدو متقدماً في السن، مسح على رأس الطفل بحنان، وسأله:
- هل تذهب إلى المدرسة؟
- نعم.
- لماذا أنت هنا؟
- جئت مع أبي، إنه يشكو من معدته.
وأشار إلى حيث يجلس أبوه، ثم سأل:
- ولكن مم تشكو أنت؟
علق الرجل الأبيض الشعر ابتسامة باهتة على وجهه، وقال:
- أنا أشكو من
الفقر!
ثم ضحك بخفوت، وفرقع أصابع يديه بطريقة متناغمة مما
جعل الطفل مندهشاً.
وطلب من الرجل أن يعيد ذلك مرة أخرى، غير أنه هزَّ
رأسه وقال:
- دعك من هذا، اسمع تغريد الطيور.
ضم شفتيه في دائرة ضيقة، وأطلق صفيراً منغماً مثل صوت
الطيور تماماً.
هلل الطفل بجذل، وركز الحاضرون أبصارهم على الرجل
الأبيض الشعر مبتسمين في غبطة.
طلب الطفل بإلحاح إعادة التغريد من جديد. رفع الرجل
ذراعيه، وهزهما مثل جناحين، ثم أطلق الصفير المغرد بصوت أعلى من ذي قبل.
ضحك الطفل بابتهاج. ثم حاول تقليد الصوت دونما جدوى،
فيما علق الحاضرون نظرهم بالرجل، شاعرين تجاهه بالعرفان لملاعبته الطفل.
قال الرجل ممسداً شعر الطفل:
- لن تستطيع تقليد
تغريد الطيور المهاجرة.. هذا صعب، ولكن هل تعرف النوارس؟
- لا!!
- إنها تلك الطيور
البيضاء التي تجدها دائماً على الشاطئ.
- نعم..
نعم لقد رأيتها من قبل.
- أنت بالتأكيد
تستطيع أن تقلد صوتها، اسمع: واك.. واك.. واك!!
وإذ ظل الجالسون بالقاعة يبتسمون ممتلئين بمشاعر
الاحترام والود تجاه الرجل الأبيض الشعر الذي منح كل وقته لذلك الطفل، أطلق الطفل
صوتاً مشابهاً تماماً لصياح النوارس.
تحمس الرجل الأبيض الشعر قائلاً:
- رائع.. رائع، قلها من جديد.
- واك.. واك.. واك!!!
- عظيم. أنت تعرف الآن كيف تصيح النوارس.
تساءل الطفل:
- ولكن لماذا تصيح هكذا؟
أغلق الرجل الأبيض الشعر عينيه قليلاً، مقطباً ما بين
حاجبيه كأنه يتذكر شيئاً ما أو كأنه يحس بألم حاد، ثم قال:
- إنها تقبع هناك.. عند مرفأ الصيادين، على مقربة من
سوق السمك، وهي تحلق مثل نتف سحابة بيضاء فوق الرجال الذين يقدمون خدمة تنظيف
الأسماك للمشترين.
إنهم يقفون خلف موائدهم على حافة الرصيف تماماً،
ويرمون بالزعانف، والقشور، وأحشاء الأسماك في البحر، فيما تهبط النوارس من
عليائها، وتلتقط بعض تلك الفضلات فور رميها في البحر، موالية الصياح، واك.. واك..
واك، وهي تصيح هكذا لأنها تركت الطيران والتحليق على امتداد السواحل الذهبية،
واصطياد الأسماك الفضية، وظلت تهيم فوق مرفأ الصيادين، وتعيش على النفايات!!
حكَّ الطفل رأسه متسائلاً:
- ولكن لماذا هجرت تلك الطيور السواحل؟
فكر الرجل ملياً.. وقال:
- أنت صغير الآن، ستعرف ذلك ذات يوم، دعني، فقط، أسمع
منك تقليد صياحها مرة أخرى.
فرد الطفل جناحيه.. وصاح:
- واك.. واك.. واك!!
- هذا جيد، فربما سألوك في الامتحان عن هذا.. تذكر ذلك!
خرج رجل من إحدى الغرف، وطلب من الطفل أن يتبعه إلى
الخارج.
وقف الطفل متأهباً لملاحقة أبيه ومغادرة المكان، ثم
صافح الرجل الأبيض الشعر في مودة، وقبل أن يغيب تطلع إليه مع تلويحة وداع.
هتف الرجل الأبيض الشعر للطفل:
- تذكر ذلك!!
بعد لحظات، جاء رجل بدين وجلس في كرسي الطفل.
نظر إليه الرجل الأبيض الشعر متفحصاً حتى أن الرجل
البدين بدا متضايقاً، غير أن الرجل الأبيض الشعر لم يأبه لذلك، بل لكزه بمرفقه
برفق، وسأله:
- هل تعرف أن تقلد صياح النوارس؟
فزع الرجل البدين ببصره باحثاً في القاعة عن مقعد آخر،
لكن الرجل الأبيض الشعر فرد ذراعيه كجناحين، وأضاف:
- هذا سهل للغاية، اسمع: واك.. واك.. واك!
خليفة الفاخري
(1942-2001) كاتب وأديب ليبي من مدينة بنغازي. نُشرت مقالاته وقصصه في عدة صحف
ومجلات. جُمعت غالبية أعماله في ثلاثة كتب وهي: غربة النهر، بيع الريح للمراكب،
موسم الحكايات (أصدرت وزارة الثقافة الليبية طبعات جديدة لكتبه الثلاثة في السنين
الأخيرة). كما نُشرت بعض كتاباته في كتاب بعنوان "مواسم من الإبداع
الجميل" أصدره اتحاد الكتاب بعد وفاته، وقام صديقه محمد عقيلة العمامي بإصدار
سيرة أدبية له بعنوان "منابت الريح" (وهي التي نُشرت فيها لأول مرة قصة
النوارس)، وأصدر العمامي أيضاً كتاب "قطعان الكلمات المضيئة" الذي احتوى
على مراسلات متبادلة بين خليفة الفاخري وصديقه الكاتب والمفكر الليبي الشهير
الصادق النيهوم.
Commentaires
Enregistrer un commentaire