الساعة
الخامسة و العشرون
قسطنطين فرجل جيورجيو
ترجمة : فائز
كم نقش
الناشر: دار ميسكلياني
"كل كتاب من كتبي هو صراع
من أجل الحقيقة تلك الحقيقة العارية التي تحدث الضجة"
جيورجيو
يقول بول ريكور أن هوية القصة هي التي تكشف هوية الشخصية
وغالبا القصة تحدد ببعديها الزماني والمكاني الذي يمنح شخصياتها تلك الهوية التي
قصدها ربما ريكور لكن الأمر في رواية فرجيل لا يمكن ان يحدد في هوية معينة او حتى
في مكان وزمان معينين لأن الفكرة أكبر حجما وأكثر كونية, عمل ك"الخامسة والعشرون"
يبقى عملا ممتدا قابلا لجميع الاسقاطات الممكنة على كل العقود التي تلت الحربين
العالميتين الاولى والثانية وهذا بالضبط ما رغب فيه فيرجيل جورجيو هي محاولة تنبيه
تنبؤية بدأت فصولها ساعة كتابة الرواية او قبلها بقليل واستمرت, المرعب في الأمر
ان هذا العمل هو أشد قسوة و مرارة من عمل نشر في نفس التوقيت يشبهه لحد كبير مع إختلاف القالب وهو عمل جورج
أرويل "1984"حيث يبقى عمل أرويل رغم سوداويته و اليوتوبيا المضادة التي
يعكسها يبقى مجرد تخيل ممكن حدوثه في حين أن الساعة الخامسة والعشرون حقيقة راسخة
ودامغة مهما حاولنا أن نخفف منها.
ولد قسطنطين فرجيل جيورجيو سنة
1916 بمولدافيا شمال رومانيا من أسرة أغلب رجالها رهبان ارثدوكس وهو المصير الذي
كان مقررا له لكن بسبب ظروف الأسرة المالية تعذر عليه ذلك ,
من سنة 1928 إلى سنة 1936 درس بالمدرسة العسكرية واثناء هذه الفترة كتب أولى
أشعاره ونشر بعضها في الصحف,انتقل بعدها سنة 1939 إلى بوخارست ليشتغل ويدرس
الفلسفة وسنة 1939 تزوج بأكتارينا بوربيا وحصل سنة 1940 على الجائزة الملكية للشعرعن
ديوان خطوط فوق الثلج,اشتغل لفترة قصيرة بوزارة الخارجية لينتقل سنة 1943 الى زغرب
كملحق ثقافي بالسفارة الرومانية ,سنة 1944 يختار المنفى بعد دخول القوات السوفياتية
لرومانيا فيسجن من طرف الأمريكيين هو وزوجته باعتباره رومانيا حليفا للنازية وبعد
عدة محاولات للهجرة استطاع هو وزوجته عبور الحدود لفرنسا سنة 1945 و بقي فيها
لغاية مماته و فضل أن يدفن فيها,هذه سيرة مقتضبة للكاتب لابد منها للتعرف أكثر على
عمله وقبل أن أتطرق للعمل ذاته لابأس أن أذكر بالحفاوة التي استقبل بها الكتاب بفرنسا و التي يعود لها الفضل بشكل ما في نشره.
حين عبر جيورجيو الحدود لفرنسا
كان يحمل معه مخطوطة "الساعة الخامسة والعشرون",التقى بباريس بلاجئة
رومانية تدعى مونيكا لوفينسكو التي حسب احدى رسائلها اليه تبقى من أوائل القراء
لهذا المخطوط ,وجدت مونيكا أن المخطوط بهذا العدد الكبيرمن الصفحات التي بلغت 800
صفحة من الصعب نشره فنصحته بإعادة صياغته ,ويقال
أنها لم تتقاضى أتعاب ترجمتها هذه ونعتت فرجيل بنكران الجميل بل ورفعت عليه دعوى
قضائية لاستخلاص مستحقاتها, سمع بالمخطوط الفيلسوف الفرنسي غابريل مارسيل المدير
الأدبي لدار بلون فطالب بنشره واضعا له مقدمة أثارت إهتمام القارئ الفرنسي,نشرت
الرواية سنة 1949 وسرعان ما ترجمت لعدة لغات باستثناء تلك المنتمية للمعسكر
الشرقي.
الوسط الثقافي آنذاك كان على
استعداد للانفتاح أكثر باتجاه كتابات الشرق أوروبية خصوصا أن باريس عرفت ساعتها
هجرة قوية من مثقفي رومانيا لدرجة أن سيوران كتب في إحدى رسائله أن باريس اصبحت
مدينة رومانية, سنة 1949 بالأخص عرفت نشر ثلاث كتب على درجة كبيرة من الأهمية
لثلاث كتاب رومانيين ,فبالإضافة لل"ساعة الخامسة والعشرون" نشر أول كتاب
لسيوران "رسالة في التحلل" من دار غاليمار وكتاب "أسطورة العود
الأبدي" لميرتشيا إلياد والثلاث كتب أحدثت صدى لدى النخبة الثقافية بباريس ,
بالعودة لرواية فرجيل أعتبرها رايموند أرون صاحب كتاب أفيون المثقفين من أكثر
الأعمال التي ضمت شهادة رائعة وحقيقية عن العالم المعاصر فهذا العمل حسب قوله هزه بعمق وأدهشه لحد الإرهاق ,من جهته
أندريه روسو في مراجعته للرواية بصحيفة لوفيغارو قال عنها أنها رواية تخص أوروبا
ككل معسكرها الشرقي والغربي هي رواية تتحدث عن أسوأ كارثة عرفتها البشرية منذ القرن الأول للميلاد,بينما اعتبر أندريه فونتين
المؤرخ والصحفي بجريدة لوموند أن فرجيل تجاوز كل الكتاب الذين تناولوا موضوع
معسكرات الاعتقال فاعتبر العالم ذاته معتقلا أوسع وهي نظرة تتماهى مع النظرة الكافكاوية
التي تعتبر البطل معتقلا مفترضا,و يبقى محظوظا متى لم يقبض عليه.
في حين تلقى الوسط الباريسي هذه
الرواية بحفاوة , تلقاها الرومانيون بنوع من التحفظ إلى أن قرأت بشكل مغاير
ابتداءا من سنة 1989 لتنشر برومانيا سنة 1991 أي قبل وفاة جيورجيو بقليل, في حين
تلقاها اليهود بنوع من التذمر, واعتبره بعضهم معاديا للسامية لاسباب كثيرة منها
اعتبار موريتز ضحية عوقب بعقاب خاص باليهود وهذا أعطى انطباعا أن اليهود يستحقون فعلا
ما حدث لهم وأن الخطأ الوحيد في الموضوع أن يُِؤخذ موريتز على أنه يهوديا و هو ليس كذلك ,هذا بالإضافة
لكتابات سابقة لجيورجيو اعتبرت معادية للسامية مما اضطر جيورجيو للاختفاء بعيدا في
الأرجنتين هربا من هذه الحملة الإعلامية التي كلفته خسارة صديقه مارسيل غابريل.
كيف يمكن إذن أن نقرأ رواية بهذا الحجم, وتحت أي
تصنيف يمكن أن نضعها قد يختلف الأمر من شخص لآخر حسب خلفية كل قارئ لكن كبداية فهي
شهادة حيةعلى أدق وأعنف فترة تاريخية مرت بها أوروبا,شهادة حية من شخص عاين و
اكتوى بنارها ذاكرة حية بالمقام الأول أو يوميات كتبت بشكل منفتح وغير متوقع فهي
رواية تنتمي لأدب السجون و رواية سياسية و رواية قد ندرجها أيضا في أدب الحرب و
ربما تكون رواية ينطبق عليها شرط التخيل التاريخي كما جاء به الدكتور عبد الله
إبراهيم مع تحفظ شرط الزمن في هذه الحالة أو ربما بعيدا عن كل هذا ندرجها ضمن أدب
السيرة الذاتية خصوصا التخييل الذاتي أو الرواية الذاتية كما وضعها سيرجي
دوبروفسكي حين نشر روايته الإبن سنة 1977 و هذا ما أميل إليه لأسباب سآتي على
ذكرها وأيا كان الأمر تبقى رواية الخامسة
والعشرون عملا ملحميا لن يترك قارئه محايدا.
في إحدى حواراته يؤكد فرجيل
جيورجيو أن " كل صفحة من كتابي كتبت بالدم,دمي,دم أصدقائي,دم أولئك الذين
عانوا والذين ما زالوا يعانون في المعتقلات,أجل كل ما كتبه تريان عن المجتمع
التقني,حول تحويل الإنسان إلى آلة أفكر فيه فعلا",من إجابة جيورجيو هذه ندرك
أن عمله ليس سوى نوع من السيرة الذاتية فالكاتب حاضر في ذات الكاتب تريان كوروغا
الشخصية المحورية الثانية في العمل و حسب سيرته سنلاحظ مدى التقاطع الواضح بين
السيرة المتخيلة و السيرة الحقيقية,هي محاولة من الكاتب أن يجعل بينه وبين الكتابة
و الحدث مسافة تمكنه من القليل من الحيادية باعتبار ما كتبه نوع من التوثيق التاريخي
وهو الأمر الذي عرف جدلا واسعا خصوصا من طرف اليهود,من بين هذه التقاطعات ما ذكره الكاتب في إحدى
اللقاءات بباريس التي عرفت بالإضافة لحضوره هو و زوجته حضور مارسيل غابريل حيث ذُكر
باللقاء أن جيورجيو حاول الانتحار بقطع شريانه بعد أن فشل في إضرابه عن الطعام حين
كان معتقلا وهي المحاولة التي رمت به في مستشفى المجانين كما وجدت الباحثة ميرال
دراجاو أثناء بحثها عن وثائق الحالة المدنية المرتبطة بجيورجيو ان كنية كوروغا كانت
تحملها جدته قبل زواجها. بالإضافة لتقاطعات أخرى متشابهة كالأب الراهب و كالمهنة التي اشتغلها كلاهما , و
بعيدا عن السيرة و بالنظر
لطريقة السرد المركزة على
حياتين و شخصيتين رئيسيتين هما الفلاح موريتز و الكاتب الشاعر تريان كوروغا يظهر
أن جيورجيو تماهى بين الشخصيتين
ليوحد الذاكرة بالإتجاه الذي
يريده و يرغب بشرحه باندفاع هذا بالإضافة
لرغبته في جعل الفكرة الرئيسية
كونية متعددة الطبقات ومتعددة اللغات هذا التماهي بين الشخصيتين يظهر منذ بداية الأحداث
ليتصاعد حدته مع ضغطها و يبدو أن جيورجيو أراد من موريتز أن يمثل الحدث في حين
يحلله ويناقشه تريان و هذا ما ظهر بشكل أوضح في العرائض التي كتبها, يمكنني
باختصار القول وعلى إعتبار
العمل رواية ذاتية أن موريتز يمثل الذات المتخيلة و كوروغا يمثل
"الأنا"بمعنى الكاتب حاضر لكنه يحتاج لمن يستفز هذا الحضور و يكشفه و
ليس موريتز ( الفلاح) فقط من يقوم بهذا بل
نجد بجنبه شخصيتا الأب ( الكاهن) و المحقق دميان ( القانون) , في النهاية قسطنطين
فرجيل جيوجيو من كتب رواية الخامسة والعشرون المستوحاة من شخصيات حقيقية , و يبقى
السؤال لماذا اختار جيورجيو نهاية كتلك لكوروغا و هو الأمر الذي لم يحصل حقيقة له
و لما فضل الابقاء على الفلاح و اغتيال الشخصية التي تمثله ؟ ربما يتعلق الأمر
باستسلام العقل " لعله ينبغي أن تتصرف على نحو جديد أعتقد أن بالكتابة لن تصل
إلى أية نتيجة" (صفحة 343) أو ربما تعلق الأمربمحاولة تأسيس جديدة في المنفى
مع الإبقاء على الارض,الأصل ( الفلاح موريتز) , محاولة تأسيس هدفها الرئيسي خلق
عقل بشري قادر على وقف زحف العبد التقني و مواجهة النهاية أو ما بعد النهاية
الساعة الخامسة و العشرون فماهي الساعة الخامسة و العشرون ؟ومتى تأتي و كيف
نواجهها؟.
الرواية هي صرخة الإنسان
الحداثي أو ما تبقى منه في مواجهة تلك الحداثة ذاتها التي بدأت تفرض نسقا معينا
يزيد من توغل المادة و تقهقر الروح,إختفاء الإنسان و تمدد الآلة
والبيروقراطية,الرواية هي كشف خيانة الإنسان لذاته نوع من الفاوست الآلي الذي سمح بظهور البروليتاريا
التقنية القابلة لإحداث الثورة و لفرض قوانينها و إجبار البشرية على التبعية وهي
ثورة بطيئة ستمسخ الإنسان ليصبح ببغاء تسلية للعبد التقني فيصل الوضع إلى فرض نوع من الألوهية على الآلة
ليبقى مجرد المقارنة بينها وبين الإنسان محض تجديف "إنها إهانة نوجهها للآلة إذا قارناك
بها,بل إنه كفر,الآلات كاملة" ( صفحة
205) , هذه الثورة ستشتت الهوية وتصنع
هوية تقررها التقنية وأدراج المكاتب و سيصبح معها الإنسان أرنبا أبيضا ( صفحة 156)
أو ينتمي للفصيلة البطولية التي توضع تحت المجهر ( صفحة 229 ), و تبقى "الساعة الخامسة و
العشرون" هي ساعة المواجهة حين يستفيق الإنسان على خرابه لكن بعد فوات الأوان
هي الساعة التي لن تفيد فيها أي محاولة للإنقاذ هي الثقب الأسود الذي سيغيب
الإنسان لتطغى الآلة ( صفحة 70), و هي الساعة التي ستشترى فيها الحضارات كسلع (
صفحة 404) و الساعة التي يبقى الأموات فيها أحياء مجازيا ( صفحة 444-445) و هي
الساعة التي ستنتهي بصلب الإنسان على صخرة التقنية ( صفحة 450), الساعة التي تغلب
فيها التصنيفات الموجهة و يسجن و يقتل فيها الإنسان على الهوية , موريتز الفلاح
الروماني الذي رغب في الهجرة سيجد نفسه تائها في خليط من الهويات لينتهي به الأمر
متطوعا لدى الأمريكيين فيعود في الأخير لحلمه الأول منهكا مجردا من الرغبة والحلم,
ببغاء يرغب في التطهر من الذنب ( الصفحة 358) يؤكد إلتزامه بالطاعة ويبتسم ببلاهة
للآلة , لم تستطع الأنظمة أن تنقذ الإنسان فجورجيو انتقد بشدة الأنظمة الشمولية
الروسية والنازية و كان لطيفا مع النظام الأمريكي متجاهلا الآلة التي سقطت
بهيروشيما فأنتقد باحتشام الديمقراطية , و يبقى الخلاص حسب جيورجيو في الفكر و
بشكل أكبر في الدين القائم على التسامح, نوع من "أدر خدك الأيسر" لتنتهي
موجة العنف و نوقف فكرة التصنيفات المربكة و الخالية من جوهر حقيقي لصالح الإنسان
, قد تكون الرواية تمثيلا لعنف الحربين العالميتين لكنها تنسحب كفكرة بشكل مفزع على عصرنا الحالي الذي يقتل فيه الفرد وتزداد الآلة تجبرا, هو الجذام الذي أكل أنف
الحضارة الإنسانية و لم يكن كل هذا ليحدث لو " أن المطر هطل أمس.." صفحة
54.
Commentaires
Enregistrer un commentaire