قصة شغف وجنون
"أندري؟أندري؟...ستكتب رواية عني.أؤكد لك ذلك.لا تقل لا.احذر:فكل ما يوجد يفقد قوته,كل ما يوجد يزول.منا نحن,يجب أن يبقى شيء ما..."
نص نشر سنة 1928 و عاد أندريه بريتون و أصلحه سنة 1962, مقتطف من سيرة
ذاتية للكاتب ركز فيه على لقاء بالصدفة جمعه بنادجا توجت بعلاقة مميزة ما بين
أكتوبر 1926 و فبراير1927 , لقاء قصير خرج منه بريتون بثورة من الأفكار حول الفن
والحياة الفرد و الآخر و لم تكن الكتابة عن نادجا سوى تنفيذ لوصيتها في إحدى
لقاءاتهما, يبدو النص يتماهى مع مانيفستو السريالية الذي كتبه بريتون سنة 1924 تمهيد و تعريف بالسريالية للمبتدئين
بصيغة نثرية و في ذات الوقت تطبيقا عمليا لها أدبيا فبريتون رفض التعبيرات
الرومانسية الروائية و أكد على ذلك صراحة في الكتاب و رفض الوصف و اعتبره استخفاف
بذهن القارئ الذي يدعوه إلى المشاركة في النص و التفكير فيما وراء السطور و يساعد القارئ في ذلك و عوض الوصف بكمية من الصور
التوضيحية,كما نجد النص فيه نوع من التصاعد الغريب عن الأدب حيث يبدأ بريتون الكتاب
بتمهيد أضافه بعد إصلاح النص سنة 1962 يحاول فيه إدخالنا بسلاسة لعالم السريالية ويعطينا
لمحة عن فكره و فلسفته و لا عجب فالنص بدا بتساؤل" من أكون؟" و يحاول أن
يختزل الجواب بقول مأثور "قل لي من تخالط أقل لك من أنت" يبدو التساؤل
تعرية لذات بريتون قبل أن يعري شخصيته الأساسية
نادجا و قد يكون أيضا محاولة منه لتفسير آخر هذه العلاقة الشبقة فكريا و ليس جسديا
لأننا لن نلمس ذلك في النص و تجاهله بريتون لسخافته أمام المحاورات الشيقة التي
كانت بينه و بين نادجا,المثير في النص أن الشخصية تبدو في حد ذاتها تصورا
للسريالية في أبهى تجلياتها الواقع الذي يصور ببراعة اللاواقع مجنونة بعقل ناقد و
متحفز, الكتاب يجمع بين سطوره التيمات الأساسية التي نجدها غالبا في أعمال
السرياليين و هي الحب و الشعر و الحرية ( الحب لبول ايلوار,الحب و الحرية لديسنوس),
نص نادجا عفوي حيوي نشعر بأن الكاتب لم يعد مادته مسبقا بل عمد إلى استحضار الذكرى
والكتابة عنها دون أن يآخذ بعين الإعتبار أي مقومات أدبية و لعل هذا ما دفعه إلى
إعادة إصلاح النص , يحكي عن اللقاء و يترك للقاء أن يكشف لنا و له خباياه , نص
أدبي من طراز رفيع عرفنا على عدة شخصيات رسامين كبيكاسو و كيريكو و كوربيه و أدباء
كبول إيلوار و بودلير و بنجمان بيريت و ديسنوس و لويس أرغون ..غيرهم
يتوازى مع الحوار بين نادجا و بريتون حوار مكاني قائم على الصور فالمكان
يبدو حتمية لدى بريتون فهو مكان اللقاء /مكان اللامتوقع / مكان المرآة/ مكان الحظ/
مكان المسرح و الفن عموما/
و الصور في النص أخذت حيزا مهما لكن الملاحظ أن الصور عرفتنا بكل شيء مرتبط
بالنص إلا فاعليه الأساسين نادجا و بريتون فلا نجد صورة للثنائي و كأنهما يعبران
بدقة عن المقولة الشهيرة لبول إيلوار التي تقول أن نحب ليس معناه ان نرى بعض بل أن
يرى كلانا نفس الإتجاه" فنادجا لم تعرفنا عن نفسها بل وضعت لنا طريقا يمكننا
من أن نتعرف عليها و بالعودة إلى الصور يمكن تقسيمها لثلاث أقسام صور للاماكن
الباريسية غالبا باريس العشرينات المسارح
السينما ثم القصور و العودة للتاريخ بعدها تاتي الصور الشخصية للأدباء و بعض
الشخصيات الطبية و الفنية ترافق رأي بريتون حولها نوع من الإثبات أراد به بريتون
دعم رأيه فيهم و أخيرا الصور الفنية لعصر
النهضة و السريالية و بعض الصور للفن الفطري رؤية جامعة للفن فيها إسقاطات لنظرة
بريتون الشخصية لبعض المدارس الفنية و ضمن الصور الفنية نضيف رسومات نادجا التي
ساعود إليها كملحق.
يحاول بريتون أن يبدو جازما و واضحا من خلال نصه فيما يتعلق برؤيته للفن و
الحب,حيث يبدي رغبته بعد أول لقاء بإنهاء العلاقة قبل أن تبدأ حيث وجد في نادجا أكثر مما توقع و أستغرب كيف
لهذا الرجل السريالي أن يُدهش من جنون الملهمة و كيف يعتبره تجاوزا للمعقول في حين
أن مدرسته قائمة على اللامعقول و نفي كل ماهو جاهز و حاضر ,نادجا كما ذكر بريتون
في النص وُجدت في طريقه ليجرب بقسوة كل ما لا يجرب فيها , هزة ربما لتكشف ضعفه
تجاه المطلوب منه كرجل مجتمعي ففي النهاية هجر نادجا التي تبدو مجتمعيا مرفوضة,
فهل نعتبر هذا النص تكفيرا عن ذنب الهجر و هل يمكن لنص بحجم نادجا أن يحل المعضلة
كيف يمكن أن نعيش بإرث عاطفي يسكننا لسنوات تجاوزت الثلاثين في حالة بريتون و ربما
استمرت معه لمماته.
ما الذي يجعل من نادجا مصدرا لهذا النوع من الهزات, لا يضاهيها أي حضور
نسوي آخر بمن فيهم زوجة بريتون, لعل فوضويتها و عدم تقيدها بأي عادة إجتماعية قراءتها
المتميزة و الناقدة لكتاباته و أخيرا نادجا الكاتبة و باعتراف بريتون كلماتها كان
له وقع و سحر "هي جمل أجد فيها حقا نبرة صوتها و لها في نفسي رجع قوي" و
أعطانا لمحة صغيرة عن بعض جملها, هكذا كانت نادجا فكرة موازية لحلمه المفترض
لعلاقته الغرامية الناجحة و أدخلته عالما ثانيا متفردا لمعنى الحب و معنى الوجود,
مخيلتها الشاردة و الجامحة جذبت بريتون ليتتبع بفضول و شغف مسارها للإعلان عن
نفسها و عن الجنون الذي أستولى على عبقريتها, تطور الشخصية في النص تُصور علاقة
بين شغف و فضول علاقة إطرادية بين الإثنين فالإثنين يحكمهما الفضول لمعرفة الآخر و
تعريته و يجمعهما الشغف لأن يكونا معا تقول نادجا واصفة وجودهما"إنهم لا
يستطيعون التصديق,أترى,إنهم لا يستطيعون العودة إلى حالهم الطبيعي بعد أن يرونا
معا.فكم هي نادرة تلك الشعلة التي في عينك,التي في عيني", و مهما كان وقع
نادجا كملهمة على بريتون فإنها كانت سببا في منح الأدب الفرنسي إحدى روائعه و هذا
جعلها تدخل لمصاف عظيمات الإلهام الفرنسي فمن هي نادجا؟
تعرف نفسها بأنها
"نادجا,لأن هذه هي بداية كلمة أمل بالروسية و لأنها ليست إلا بدايتها
فحسب" هاربة من هويتها الحقيقة و رافضة للواقع المفروض عليها ظهرت لبريتون
أولا كإمرأة جميلة و جذابة بأناقتها و
ضحكتها و مشيتها و تبرجها لتتحول بسرعة إلى المرأة اللغز فنجده يسألها "من أنت"
معتقدا أن سؤال هكذا يعفيه من باقي الأسئلة و منتظرا لجواب شافي فيكون الجواب
" أنا روح هائمة" فتزداد جاذبيتها أكثر , تبدو المرأة لبريتون شخصية مزدوجة في كل التعليقات التي
كتبها حول حياتها فهي نقية غير مرتبطة بالدنيا لكنها حريصة عليها ملهِمة و ملهَمة
ضعيفة و قوية حياتها تتجاذبها قوى صاعدة و أخرى تدعو الى السقوط هي الحورية و
السمكة وجه ملائكي لتتحول في لحظة للمرأة الثعبان تناقضات حيرت بريتون و دفعته
لمحاولة الكشف عن حقيقة نادجا.
تصبح نادجا
بالتالي حقلا خصبا لتجارب بريتون السريالية بقدرتها العجيبة على ملاحظة و التنبؤ
بما تخفيه ملامح العابرين كما كانت عرافة ترى ما لا يراه الآخرون أو تسبقهم في
الرؤية, منصتة جيدة للطبيعة و قادرة على ترجمة لغتها,كانت لها رؤيتها الخاصة للأشياء
فهي ترى أن كل شيء يجمع بين النار و الماء في حين لا شيء بتاتا يجمع بين الذهب و
النار,كما كانت تؤمن ببعد غير الأبعاد المتعارف عليها تتجمع فيه كل الأفكار لتعود
من جديد في متتالية تشبه عمل النافورة, كهذا بدت المرأة لغزا سريالية صارخا ازداد
تألقا برسوماتها الغريبة سأركز على بعضها
زهرة العشاق :
الثعبان يمثل بريتون في حين تمثل الزهرة ذات القلبين و النظرة الثنائية نادجا, وضعية
الزهرة فوقية و السهم الموجه للثعبان قد يعبر على رغبة نادجا في التحكم ببريتون.
الحورية و المسخ: يمثل
المسخ بريتون بينما الحورية تمثل نادجا ثنائي الماء و النار الذي يتماثل حسب رأي
نادجا
حلم القط:إختيارها
للخلفية السوداء و القط القائم محاولة واضحة للهروب من الواقع الجاثم على روحها
بكل أثقاله
الرأس و الكف:
الرأس يمثل نادجا و موشوم عليه الرقم المشؤوم 13 و توقيع نادجا و الكف لبريتون
الذي يمثل النار كما ذكرت نادجا رسمة تمثل حسب فهمها التماثل بينهما
الأمير وتحية
الشيطان: صورت نادجا فيه نفسها بصورة أميرة تضمها علامة إستفهام و تساؤل من تكون و
صورة لشيطان يبدو خارجا من حذاءأو مصباح مبتسما واثقا رسمة تمثل ثنائية الشر و
الخير في نادجا
القناع: يمثل
بريتون تربطه نادجا بقلبها بنقط توضح مدى شكها في علاقة كهذه و على جانب الرسمة
نجدها تحدد تطلعاتها من العلاقة الانتظار الرغبة الحب و المال
نعرف من النص أن
اسمها الحقيقي ليونا ديلكورت ولدت بليل و أنجبت طفلة في سن 16 سنة أنتقلت لباريس و
اشتغلت في عدة أعمال كالمخدرات و الدعارة قبل أن تلتقي بريتون و بعدها دخلت في
هلوسات انتهت بها للجنون فدخلت مصحة و بقيت فيها لحين وفاتها في الأربعينيات , لم
يقم الكاتب باي محاولة لزيارتها كما لم يُعرف إن كانت قد قرأت كتابه عنها أم لا
جنونها دفع بريتون لنقد المجتمع و نظرته للمرض كما أنتقد الطب النفسي كآلية علاجية
و أجده انتقد الكل إلا نفسه بحيث كان ممكنا أن يزرها فهي تبقى ملهمة فوق العادة, تبدو
المعلومات عن نادجا باهتة و قد شغفت بها كاتبة هولندية هي ايستر ألباك التي تتبعت
مسار نادجا و بحثت عن أصولها و استجوبت حفيدتها و ألفت كتابا حولها لم يترجم
الكتاب على حد علمي للعربية.
فحقيقة من تكون
نادجا؟ و هل الجنون صفة ملازمة للعباقرة؟
Commentaires
Enregistrer un commentaire