هكذا كانت الوحدة


 

 

"هؤلاء

الذين يحدقون في الحافات

دائمو الريبة

أيديهم ضُمت في جيوبهم

لديهم الكثير مما يقولونه

لكنهم يلوذون بالصمت

السماء تمتد نحو دواخلهم

لذلك، أحياناً، تحت القمر

تجدهم وحيدين، يبتسمون أمام بابٍ موصد"


Yiannis Ritsos

 


 

 

 


أنا امرأة وحيدة؛ ولا أقصد بالوحدة أني لا أملك أصحابا أو أهلا، بل على العكس تماما أملك ما يكفي لأؤكد لكم أني اجتماعية درجة رفيعة، أو بالدرجة التي تكفي ليعتبرني الجميع قادرة على التواصل وتلقي دعوات من هنا و هناك، لكن الوحدة التي أقصدها ليست تلك التي تتشكل في انعدام ما سبق ، الوحدة الحقيقية تبرز أكثر مع وجود ما ينفيها، مع وجود نقيضها، هي مثل الزيت الذي يطفو فوق الماء، شيء يبعدك عن الارتواء، تلتصق معك كبطاقات الملابس التي تؤذيك في الرقبة متى قصصتها وتؤذيك أيضا متى تركتها، الوحدة شيء مصيري وحتمي وقد أجادت نادين غورديمير الكاتبة الجنوب إفريقية وصف هذه الحتمية حين قالت:" كل منا يولد وحيدا ويموت وحيدا مهما كانت طبيعة وعمق العلاقات التي تربطه بالآخرين؛ أزواجا كانوا أم أطفالا أو أصدقاء ."

 

أنا امرأة وحيدة، ولا يبدو الأمر مثيرا للشفقة، فلست أرى الآخرين جحيما بالمعنى السارتري، ولا أخجل من نظراتهم، ولا أصنع معنى لوجودي من خلال تلك النظرة، كل ما في الأمر أن هناك دائما سوء تفاهم ناتج عن غياب التواصل، أي غياب اللغة. هناك دائما شيء لا يقال، شيء نضمره في صدورنا متى لم نجد أرضية مريحة لعرضه.

لطالما تساءلت متى بدأت ظلال هذه الوحدة تحوم حولي دون أن أنتبه لهذا الوجود غير المرغوب فيه، ستكون الإجابة مربكة، فليس هناك تاريخ معين لحدوثه، تأتي الأشياء على مهلها أحيانا، على دفعات كأمواج تقذف ألسنتها نحو جرف وتلعقه وتقضم منه كل يوم بضع فتات، لينتهي الأمر بعد سنوات بنتوءات غريبة وغير مفهومة لكنها في المجمل تشكل لوحة قاسية تنخر بطن الجرف، ثم تأتي لحظات الاكتشاف موزعة على حلقات روتينية، تصرفات لم نعد نستطيع ممارستها كما اعتدناها وأصبحت ثقيلة أو نمارسها بشكل آلي، نرى الحقيقة أمامنا عارية تماما، وتراودنا الأسئلة التي نحير في إجابتها.

 

الأدب جواب كل الأسئلة.

هنا يأتي الأدب منقذا ومؤنسا، فنٌّ وُضع لفهم الإنسان وجعله محور انشغالاته، يمنحنا كل الإمكانات الممكنة لتشريح أنفسنا، وإدراك المبهم فينا، ويرتب لنا آليات ذلك، دون ضغط أو إجبار، يقترب منا ويفهمنا متى عجز الآخرون عن بلوغ ذلك، والكُتَّاب برفقة شخصيات أعمالهم وسيرهم الذاتية يقترحون احتمالات ممكنة لفهم هذه الوحدة غير المبررة، لمحاولة بترها عن محيطها وإعادة جدولتها من جديد ، فتتداعى أمامنا التفسيرات الواحدة تلو الأخرى، وقد يرى الكثيرون ممن يعجزون عن فهم ماهية الأدب  أن الركون إليه ليس سوى هروب من الواقع، و هنا أتذكر عبارة لجون وليامز صاحب شخصية ستونر :" بل هو هروب إلى الواقع." ولا أجد أبلغ من هذه العبارة لشرح ماهية الأدب وتفاعله مع القارئ، ونحن هنا لا نقصد الأدب بوصفه محاكاة لهذا الواقع بل بوصفه خالق لهذا الواقع، وأتفق مع يوسا حين عالج هذه الجدلية وأكد أن الأدب كذبة، لكنه لا يكذب اعتباطا، فهو وسيلةُ الكاتب للتعبير عن حقائق عميقة ومثيرة للحيرة، ولا يمكنها أن ترى النور إلاّ من خلال هذه الكتابة الإبداعية، إن الأدب هو تلك الاحتمالات الممكنة للحياة التي مرت بمحاذاتنا حين فضلنا خيارا واحدا، بالتالي يرسم رؤية مكملة لما نعيشه، رؤية ناقدة و متفحصة ومن خلالها نستطيع فهم ذواتنا  وتقبلها وتقبل الآخرين. يقول تزفيتان تودوروف:" الأدب يتيح لكل واحد منا أن يستجيب لقدره في الوجود إنسانا" هذه الأنسنة أحيانا نفقدها في دوامة الحياة اليومية عبر تفاصيل مادية بحتة نُجبر على مسايرتها و السعي إلى الأمام مفترضين أن الأمام هو الاتجاه الوحيد الممكن، نمضي وفق قواعد محددة نتبعها ونتقيد بها، والوحدة بكل تجلياتها  تظهر هنا مع هذا التيار الجارف الذي نمضي فيه مع الجماعة فلا نجد أحدا يصغي، فأفواه الجميع مشغولة بالحديث أيا كانت صور هذا الحديث.

إن هذا التفكير النموذجي في الأدب كبديل، يتأتى من خلال الصحبة التي يتمتع بها القارئ مع الأعمال الأدبية؛ شعرا كانت أم نثرا، ومن خلال هذا التوهج الذي يدركه متى شعر أن بيتا شعريا استطاع أن يترجم فكرة راودته دون أن يتمكن من صياغتها، ومن خلال التواصل الصامت الذي يدركه القارئ مع شخصيات روائية يعاملها كند و كحياة قابلة للتجاوب، ومن خلال هذا التواصل نجحتُ وربما غيري من القراء  أن نفكك هذه الوحدة التي تثقل أكتافنا، دون أن ننفصل حقيقة عن واقعنا أو عن المقربين منا، فالتواصل بين القراءة والأدب لم يأتي كبديل إلا في سياق محو سوء تفاهم  القارئ مع الآخرين، وهذا ليس هروبا من الواقع بل عودة إليه مع ابتسامة.

يبدو مستحيلا بالنسبة لي أن أصف هذا التفاعل في نقاط محددة تُعتمد كتيب مصاحب للقراء متى فتحوا عملا أدبيا رواية كانت أم سيرة ذاتية، لأن هذا التفاعل يمر عبر صدمات متتالية من الشعور بالألفة مع شخصية هنا وتفصيل هناك، وهي الألفة التي تتحول إلى حديث ذو شجون مع الذات عبر تلك القراءة، لهذا ربما تشكل الأمثلة شواهد حية أترجم من خلالها شعور الألفة، ولا تنفك الذاكرة عن تذكيري بشخصيات معينة متخيلة وأخرى حقيقية ما زلت بين الفينة والأخرى ألوذ بظلها متى عانيت من سوء فهم واقعي.

 

ستونر، الرجل الذي مات بين دفتي كتاب.

بالعودة إلى جون وليامز وفكرته عن الأدب كهروب إلى الواقع ، فلقد قدم أبرز الشخصيات التي ساعدتني على بلوغ شيء أساسي في حياتي كنت أراه سابقا أمرا شاذا ما دام لا يراعي معايير الناس، فقد عانى من الوحدة، وسوء الفهم،  رجل كرس حياته للأدب وتدريسه وتبليغه للأجيال اللاحقة بالشكل الذي يراه مناسبا، عاش وفق فلسفة حياتية قائمة على النأي بالنفس عما لا تحتمله، لم يسارع إلى حرب باحثا عن مجد ولم ينافس على منصب ساعيا للتفوق، تزوج  على غرار الجميع وحاول مسايرة الجميع لكنه اكتشف وربما مبكرا أن ما يطلبه الآخرون يفوق قدرته على المسايرة ويتعارض مع الحياة التي يريدها، ورغم ذلك حاول تفادي المواجهة وهذا ما اعتبره الآخرون  وعلى رأسهم زوجته استسلاما صارخا ومرفوضا ، ستونر كان يواجه تحديا ملفتا وهو أن يحافظ على جوهره ، كيف يرى نفسه ، وقد كان شجاعا وصامدا و مصرا على هذا الجوهر، ولم يترك للآخرين مهما بلغت انتظاراتهم وسلطتهم فرصة اقتحام عالمه أو تغيير  قناعاته التي في مجملها كانت بسيطة ومركزة في حب الأدب، وعبر الأدب والقراءة استطاع ستونر أن  يردم تلك الهوة السحيقة بينه وبين الناس، أي أن يتجنب وحدته المفضوحة ويكون نفسه، لأن البطل الحقيقي كما يقول جون وليامز هو من يستطيع أن يكون نفسه.

 

الانمساخ، أول خطوة نحو الحرية.

خوان خوسيه مياس في رائعته التي اقتبست منها عنواني لهذه المقالة "هكذا كانت الوحدة" ذهب بعيدا في تجلياته حول وحدة الكائن البشري، يقدمها لنا وفق نظام له أساسياته وقواعده وليست مسألة معطاة كيفما أتفق، فهي صيرورة علينا ادراك تفاصيلها قبل الاقتناع بنتائجها، حاول مياس أن يدخل القارئ في هذا التمرين الواعي بالذات و مسألة الهوية، ومنذ الافتتاحية يقرن بطلته بشخصيتين أدبيتين مشهورتين بالوحدة أيضا كل حسب سياقها، وهما ميرسو الغريب وبطل  التحول الكافكاوي، ومن خلال هذا الربط الجنيني نتتبع مصير إيلينا ك"امرأة وحيدة وضجرة"، امرأة في الأربعين تعاني من انمساخ داخلي يدفعها إلى  الحافة، وانشغالها بهذا الانمساخ الذي عاشته بمفردها  عمق المسافة بينها وبين أهلها وأسرتها الصغيرة ، لم تستطع أن تشارك همومها مع زوجها ، فقد فضل الانصهار مع التيار والهروب من الأسئلة الوجودية التي من شأنها أن تسبب له أزمات وتبعده عن "العادية" التي يراها السبيل الوحيد للسعادة، فهذا الانفصال عن محيطها لم يحدث فجأة بل دام لسنوات، وفي لحظة معينة تصادف وفاة أمها، تتعرى أمامها نتائج هذا الانفصال و تعي ضرورة البحث عن ذاتها ومحاولة تشريحها وبلوغ وعي معين بهذه الذات، لكنها مع ذلك كانت تحتاج للآخر لبلوغ هذا الوعي، فشرعت في قراءة يوميات والدتها المتوفاة ثم قراءة تقارير المخبر السري الذي استأجرته لمراقبة زوجها ثم مراقبتها، تقارير بلغت الذاتية فيها مرحلة التحليل النفس، وهذا المسار أهلها في النهاية إلى بلوغ أسمى مراتب الوعي عن طريق كتابة اليوميات.

 

جوان ديدون، العميل "الكول"

الكتابة كانت وما تزال أداة تفتت أسوار الوحدة، وتربت بشكل ما على أكتاف الشخص الوحيد و تمنحه واحة راحة، الكتابة كعلاج ومحاولة فهم تحيلني دائما إلى تجربة جون ديديون، فمن خلالها استطعت بلوغ تلك الصرخات المتتالية الصامتة التي ضربت جسد جون ديديون الضئيل ووعيها بعد وفاة زوجها، بعد تلك اللحظة الاعتيادية التي تغير فيها كل شيء، ودفعها نحو الكتابة، لكن هذه المرة لم تكن الكتابة احتياجا روتينيا للمرأة تمارسه كمهنة أو شغف، كان احتياجا مصيريا، كان صلاة من أجل البقاء، ورغبة في تفسير ما لم تستطيع أن تفسره للآخرين؛ ماهية الوحدة التي تعيشها دون زوجها، هذه الوحدة لم تكن بسبب قلة  من رافقها في رحلة الفقد هذه، بل كانت بسبب سوء الفهم. وهو سوء فهم أظنه رافق ديديون منذ فترة طويلة – في حياة زوجها - وقد سبق وكشفت عنه على استحياء من خلال بعض مقالاتها كمقالها الملفت "مشكلة تكوين روابط"، وأقتبس منه قولها:

"لأنني أريدكم أن تعرفوا تحديدا – وأنتم تقرأون هذه السطور – من أنا؟ وأين أكون؟ وما يشغل ذهني. أريدكم أن تعووا تماماً أي امرأة تتحدث إليكم، أنتم تقرؤون لامرأة تشعر منذ زمنٍ بعيد بأنها منفصلة جذريًّا عما ينشغل به النّاس حولها"

هكذا أوجزت ديديون وصف الوحدة، وأكدت أن أولى خطوات سوء الفهم تبدأ داخلنا قبل أن تتجاوزنا لغيرنا، ففي اللحظة التي تبدأ فيها الأمور تغرق في الضبابية وتنعدم الرؤية ولا نستطيع تفسير أبسط الأمور، وتتكور الكلمات غصات بالحنجرة، نبدأ في التساؤل:" ما الذي يحدث؟"، وهو سؤال يأتي بأسئلة أخرى لا تنتهي فنحتاج بالضرورة لنقطة البداية، تلك النقطة وجدتها جون ديديون في ليلة ما وكانت بداية سنة التفكير السحرية.

لهذه المرأة قدرة عجيبة على السيطرة، تنتهج ولن أبالغ أن قلت فلسفة تفكير لم أجدها لدى غيرها، فلسفة تضاد تجمع بين العقلانية والعاطفة، وبين هذا وذاك تعتمد على التقليلية، قد يبدو الأمر مبتذلا أن نتحدث عن التقليلية في المشاعر، فهو نطاق مشهور بالتوهج والاندفاع والانفعالية وغالبا تحكمه العفوية فكيف يمكن أن نضبط هذا في أقل ما يمكن، من الأمثلة التي ساقتها جوان ديديون في تفكيرها السحري كانت أبياتا من رباعيات تي سي إليوت "إيست كوكر":

 يتعلم المرء أن يقطف من الكلمات أفضلها

من أجل تلك الأوقات التي لا نجد فيها ما يقال

أو كيف تقال عندما لا يعود المرء جاهزا لقولها"

فهذا ما تفعله جوان بمشاعرها تتعلم أن تقطف أقل الكلمات التي تعبر عنها، فتظهرها امرأة باردة، أو العميل "كول" كما وصفها -على مسمعها- أحد مستخدمي المستشفى التي نُقل إليها زوجها بعد وفاته.

وبعيدا عن التراجيدية  والبعد الغرائبي الذي يلاحق فكرة التفكير السحري و يربطه البعض بالاضطرابات النفسية، جوان ديدون كانت وما زالت امرأة عقلانية تُحكم العقل و تحاول فرضه على كل مجريات حياتها الشخصية منها و المهنية، وأخذت  مصطلح التفكير السحري كاستعارة حول انغلاقها على ذاتها، بقيت واعية تماما أن تفكيرها مضطرب، لكنها استطاعت أن تحجبه عن الآخرين، ولجأت لما تقوم به دائما كأسلوب تفكير عقلاني؛ تقرأ، تتعلم، تلجأ إلى الأدب، وتفكر في مخرج للمشكلة، والتفكير في ظروفها بناء على ما يعتلج داخلها من تساؤلات وانتظارات ونوستالجيا تهاطلت عليها كالسيل بمجرد إحساسها بفقد الإنسان الوحيد الذي كان يكمل جملها.

استلهام هذا المصطلح قد يكون محاولة من جون ديديون للتغريب، لدفع الآخرين إلى النظر إليها من جديد، إلى كسر الوحدة التي تعيشها، كانت واعية تماما لهويتها ككاتبة تُلاعب الكلمات و تستخدمها كما تريد وتشاء، فتخفي وراءها ما تفكر به وما تؤمن به حقيقة، لكن من خلال التفكير السحري دفعت الناس إلى قراءتها بشكل مغاير، إلى محاولة الولوج إلى أكثر المناطق سريالية في ذاتها ومحاولة العثور على معنى، تقول جون ديدون: "هذا وضع أحتاج فيه أن يكون كل شيء أفكر به أو أؤمن به  قابلا للاختراق والفهم..." ، كانت تلفظ نفسها خارجا بالكتابة لعل أحدهم ينتبه لهذه المعضلة.

 

إيميلي ديكنسون، النافذة التي كتبت شعرا.

في معرض نصائحه لشاعر شاب يؤكد ريلكه أنه من أجل كتابة قصيدة واحدة فعلى الشاعر أن يرى مدنا عديدة، وأشياء كثيرة، وأن يعاشر أناسا لا عد لهم ولا حصر، قد تكون النصيحة مهمة ونابعة من حياة ريلكه المتحركة والتي تفيض بالأصدقاء والمغامرات والرحلات، لكنها نصيحة تقع في مفارقة غريبة متى تذكرت تجربة شعرية مميزة لإمرأة فضلت البقاء في غرفتها والاعتناء بحديقتها عوض التجوال والاجتماع بالناس، وهي بالتأكيد تجربة مميزة ككتابة إبداعية وأيضا كتجربة حياتية ما تزال تثير الكثير من الجدل والفضول.

إيميلي ديكنسون الشاعرة التي لم تُقرأ في حياتها، الشاعرة التي أصبحت اليوم من أهم الشاعرات في التاريخ والأكثر مقروئية، جعلت من نافذتها سفرا نحو العالم، وعتبة إلى فهم الإنسان والكون، تميز شعرها بهذه الالتفاتات الفلسفية الوجودية التي تحاول من خلالها إدراك نفسها أولا ثم إدراك الآخر ،أقامت من خلال قصائدها نوعا من التواصل الأحادي الجانب، كانت تبعث رسائل للعالم و لا تتلقى عليها ردا، فالعالم  تخيلها امرأة غريبة الأطوار، ترتدي الأبيض وتربي النحل وبالتالي اختارت حسب ظنهم عالما  مغايرا لا يشبههم، لم تكن إيميلي إنطوائية بالفطرة بل اكتشفت أن وعيها أكبر من أن تضيعه في أحاديث لا تناسبها أو إجتماعات تضطر فيها إلى النفاق، وحدتها المختارة  كانت نتيجة سوء فهم بينها و بين محيط كانت تسبقه فكرا  ورؤية ، وقد تسبب هذا السبق في انكسارات عنيفة ظهرت في لغتها الشعرية المتدفقة والغريبة عن جماليات وأسلوبية معاصريها، امرأة تقف بجلال وهدوء خلف النافذة في صورة شعرية بهية، وبقي تفكيرها عصي الاختراق إلا على الشعر، فمن خلاله تذهب من الحميمي للكوني وتحاور الآخر، وقد تكون قصيدتها "أنا لا أحد" شكلا من أشكال هذا الحوار، وهي القصيدة التي تمجد الذات وتعتني بها وبتفردها في مواجهة الجماعة والتيار.

 

أنا لا أحد، فمن تكون أنت؟

هل أنت لا أحد أيضا،

إذا – فثمة اثنان

منا

إياك أن تخبر أحدا

وإلا ألقوا بنا في المنفى كما تعلم،

كم هو موحش وكئيب أن تكون شخصا

كم هو شعبي مثل ضفدع

أن أناديك باسمك اليوم بطوله

في ذلك المستنقع البديع".

 

وكأني بإيملي هنا تخاطبني وتخاطب ستونر وإيلينا وجوان ديدون وتناقش يانيس ريتسوس، وآخرين كثر نصادفهم في حياتنا، نعاشرهم ويعاشروننا، قد يعانون بقدرنا، نتبادل الاتهامات الخفية، ونمضي في النهاية كل في طريقه ويبقى بيننا دائما شيء لا يقال.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  

 

Commentaires

Enregistrer un commentaire