تاريخ القراءة ألبيرتو مانغويل ..قصيدة عاشق

شاعر مغولي يقرأ لمحمد علي,مارية المجدلية غارقة في قراءة كتاب,ديكنز يمارس القراءة في العلن,خورخي بورخيس يستمع بشغف لقارئ سري,و أنا و أنت و كل من يحمل كتابا بيده متأملا شغوفا و يملأه الفضول لما قد يجده بين دفتيه,كلنا بايحاءاتنا بصمتنا بمعرفتنا المكتسبة من خلال أكثر من كتاب و قراءة و ذلك الألق في عيوننا حين نقع على كتاب يثري ذوقنا,جميعنا حسب مانغويل مرتبطين بشيء يشبه صلة الدم و الرحم الا أن هذه الصلة تكون بالفكرة و الورق و الحرف ,و تكون قبل كل ذلك بحبنا وولعنا بالقراءة و كأنها مذهب جديد. ألبيرتو مانغويل الأرجنتيني الأصل الكندي الجنسية ,لا يمكننا اعتبار كتابه هذا محض تأليف أو سرد تاريخي لمسألة وجودية فهذا التاريخ قد نجده بكل بساطة بضغطة على زر غوغل ,إنه أكثر من هذا و ذاك هو أشبه بطقس مقدس , تعبدي, هو احتفالية خاصة لهذا الفعل الحر بامتياز "فعل القراءة",فإقرأ ليس فعلا جامدا غير متحرك لا يتنفس وجذوره متلفة على الورق,بل هو فعل حي بنا نحن القراء,كلنا نقرأ و كل ما فينا يقرأ ,كلنا نقرأ ما يحيط بنا بشكل أو بآخر نقرأ الكلام على الشفاه ,الأم تقرأ بكاء طفلها و تشخصه ,الفلكي يقرأ السماء ,المحب يقرأ عيون حبيبه,العرافات يقرأن الورق و يسترسلن في الحديث,كل إهتماماتنا الحياتية و الروحية كما أسرد مانغويل يحيط بهذا الفعل الجبار,نستطيع أن نعيش بدون أن نكتب لكن لا نستطيع أن نعيش على هامش "إقرأ". يعود بنا مانغويل لفترة طفولته و شبابه في نوستالجيا لذيذة لبداياته مع القراءة و شغفه بالكتب و طرقه الملتوية و تلك الواضحة ليقرأ , يذكرنا ببداياتنا في اقتحام هذا العالم بوجه خجول, يحدثنا مانغويل عن عزلته و كيف منحته القراءة عذرا مقبولا للانعزال فهو يتحدث عني و ربما عن جميع القراء يذكرني بطفولتي و أنا أهرب الى زاويتي الصغيرة في الشرفة و الحصيرة الباردة و بضع كتب استطعت شراءها بعد توفير خانق من مصروفي البسيط و هو يتحدث عني أيضا حين أٌقفل الكتاب اذا مر أخي الأكبر أو أبي و أمي لأني مررت فقط بكلمة "قبلة",و يذكرني أيضا بأنانيتي و حبي لتملك أي كتاب يمر بالبيت و كأنه خاصتي و موجه الي بالذات,عزلة بالاختيار جعلتنا نبتعد عن الناس و ننظر اليهم أحيانا بعين الريبة و الإمتعاض و هو شعور متبادل مما يخفف من شعورنا اتجاههم بالذنب فما الأجمل إنسان ثرثار لا نفقه كلامه أم كتاب صامت يثرثر بقربنا؟ محاولة الكٌتاب المستمرة لتكريم الكتب و القراءة ليست بالشيء الجديد , فالكاتب الجيد هو أولا قارئ جيد و الكتابة حول الكتب هي كإرث يورث من كاتب لآخر و لا أستبعد أن يخرج مستقبلا بين من أعرف من القراء قارئ يصيغ قراءاته في كتاب يستفيد منه الجيل القادم , ليبقى فعل الكتابة و القراءة متزامنين السبب و المسبب بشكل اطرادي, كتابات البيرتو مانغويل عن القراءة و الكتب تشبه القصائد الغزلية فهو مشغول بالقارئ و الكتاب مشغول بتكريم دائم لكل شخص له فضل على القراءة يكرم بورخيس في كتابه مع بورخيس , يكرم ستفنسن في ستفنسن تحت أشجار النخيل , و روديارد كيبلنغ في سيرة أدبية مختصرة لكيبلنغ, مانغويل لا يمل من الكتابة في موضوع القراءة و كأنه خلق للم شمل طائفة القراء حول مأدبة دسمة و ليس كتابه هذا الا كر آخر في هذا المجال, و لنعد لكتابه تاريخ القراءة و نحاول لجم أفكار مانغويل المتمردة. يبدأ مانغويل – لا أعرف لما اشعر برغبة ملحة في ان أناديه بالشيخ مانغويل فهو شيخنا شيخ طريقتنا – من تاريخه الشخصي كمدخل لهذا العالم و هو في سن الرابعة ارتبط بالحرف و الصورة لينتقل الى قراءة كل ما يقع عليه بصره من قصاصات الى الغرق السري اللذيذ في مكتبة والده الديبلوماسي الى عزلته المحببة مع الكتاب ,يحدثنا عن ذلك العشق الخفي الذي بدأ يكبر ليصبح الى الهوس أقرب "يجب أن أتملكه,يجب أن يكون ملكي" في حديثه عن اي كتاب يقع بين يديه , الى مرحلة مكتبة بيغماليون و الصدفة التي جمعته ببورخيس ليتوج اللقاء الصدفة بفرصة يحسده عليها كل قارئ مرافقة كاتب عظيم كبورخيس كقارئ مرافق رفقة ساعدته على إعادة النظرفي العديد من قراءاته السابقة . بعد تجاوز الشخصي ينتقل مانغويل لتاريخ القراءة,لم يركز مانغويل على ترتيب معين في التواريخ فالتاريخ عنده لا يغدو كونه سلسلة ترتبط بتواريخ أخرى لا يحدد بدايتها و لا نهايتها الا القارئ حسب فكره و قدرته على رؤية التاريخ. في القسم الأول من الكتاب يتطرق الكاتب الى مقاربة القراءة في بعدها الفلسفي و البيولوجي و اللغوي معلقا على بعض ما جاء به الفلاسفة و العلماء و اللغويون حول علاقة القراءة و الجسد بكافة حواسه ليخلص الا أن القراءة عملية بعيدة عن الآلية بل هي عملية "ما قد تفصح عنه الكتابة من تلميحات و ظلال"ابن الهيثم ,بعد هذه التوطئة ينتقل مانغويل الى توصيف القراءات المختلفة كالقراءة بصمت و إبعاد الزائر المتطفل و القراءة كذاكرة مخلدة للكتاب في ايحاء لما يتعرض له الكتاب من اضطهاد عبر التاريخ و الكتب لمذابح الحرق,القراءة كبيداغوجية تربوية ,القراءة المغيبة و المحرضة ,القراءة عبر الصور التي تمنح للقارئ فرصة التخيل و تجاوز فقر القراءة ,القراءة العلنية كمظهر متحضر للمدنية و فيما بعد كمحرض للثورات و مقيد لروح القارئ ,و القراءة المرتبطة باشتهاء شكل الكتاب المدلل باختراع الطباعة ,القراءة الوحدانية التي تختار المكان كعامل محرض للقراءة ,و القراءة المغنجة باستعارات ثقيلة تحررت مع مرور الزمن لتناسب القارئ في زمن السرعة ..التاريخ حاضر مع مانغويل من أول السومريين الى أوروبا الوسطى الى الحاضر. في القسم الثاني من الكتاب يحضر القارئ بسطوته و سلطانه و ليس أي قارئ بل قراء كُتاب , يحمل كِتاب بيمينه و قلم بشماله توليفة تمكنهم من السيطرة على فعل القراءة و منحها بعدا نقديا جميلا, نتجول مع مانغويل قي قراءات أرسطو و أفلاطون و سقراط و هوميروس و أغسطينس و فرجيل الى بورخيس و كافكا و ريلكه فكلهم يتبادلون أدوار القارئ الرمزي الى القارئ المخفي و القارئ السارق و القارئ الكاتب و القارئ المترجم و القارئ المٌستعبَد و القارئ الولع,فكلها حسب مانغويل "أوصاف مختلفة لفعل القراءة". و في صفحته الأخيرة نلتقي بالكتاب الشبح كتاب من وحي خيال الكاتب يحمل اسم له من الثقل ما يجعلنا نخشاه و نترقبه و نتوسل قربه تاريخ القراءة,يصفه لنا مانغويل بدقة تجعلنا نعتقد أنه هو واضعه وبشكل أسطوري كتاب ضخم بجناحين يضم مكتبة و متحف يضمن للقارئ حضورا دائما يفرضه حبه و شغفه للقراءة و يضم فهرست لكتب و اقتباسات و لوحات تاريخية ,كتاب يعتبر دعوة مفتوحة من مانغويل لخوض التجربة من جديد في كل ما يتعلق بفعل القراءة و تاريخها هو اعتراف متواضع من مانغويل بتقصيره في ضبط و حصر كل تاريخ القراءة وهو كذلك دعوة خاصة لكل قارئ أن يتحمل مسؤوليته في وضع تاريخه الخاص للقراءة فالموضوع أصدق ما يقال عنه "انه لم ينته".

Commentaires