ليلة لشبونة اريش ماريا ريمارك



هي ليلة تمر ..هي ليلة متميزة في صمتها و هدوءها تجبرنا على  الانصات جيدا و هذا ما دفع بالكاتب أن يختار لروايته فضاءا متناقضا نوعا ما الليل بصمته و سكونه و الحانات بصخبها و ضجيجها فماذا كان الكاتب يرمز بهذه الازدواجية؟ سؤال وجدت له الاجابة في الرواية ذاتها في العنف الذي كانت اوربا تعيشه في النصف الأول من القرن الماضي و في الهدوء والسكون بل الاستسلام الذي اتجهت اليه الأنفس البشرية تحت ظل هذا العنف, ليلة لشبونة هي ليلة و تمر لكن مع نهايتها يتغير كل شيء  فينا تحررنا من سجن أعمق من كل السجون ألا و هو سجن الذكريات فالانسان قد يقاوم الجدران يقاوم التعذيب و التهجير و الاقصاء لكنه مهما حاول فلن يستطيع الهروب من ذكرياته التي تحاصره بكل ماضيه و ما فيه من ألم فيعيش بها مجبرا غير مخير, اريش ماريا ريماك الكاتب الالماني الذي عاش في ظل ألمانيا النازية الهارب منها الى أمريكا و الذي ترك فيها أختا أعدمت سنة 1943 لذنب اقترفه هو بهروبه, و لعل هذه الذكرى التي ارتبطت بأعماقه دفعته الى اخراجها عن طريق الكتابة فكانت ليلة لشبونة سنة 1962  .
الصدفة و الموعد الذي يحدده لنا القدر هي تيمة أساسية في الرواية, الرواية تضم روايتين في واحدة رواية هاربان من نفس الشي الحالمان بنفس الأرض فيلتقيان حسب منطق الأشياء  في الميناء الوسيلة الوحيدة لتحقيق الحلم و بعبثية منقطعة النظير يتحقق حلم الأول بضياع حلم الثاني ,هذا  الأخير لم يطلب ثمنا لضياع حلمه سوى أن يتحمل الأول عبء الذكرى و صداها  فكانت ليلة لشبونة.
يلتقي بطلي الرواية في لشبونة سنة 1942 الأول يبحث عن ثمن التذاكر و أوراق ثبوتية جديدة و الثاني شفاريتس لا هم له سوى التخلص من كل ما يربطه بذكراه فيمنح الأول حلمه على طبق من ذهب, المنظر يبدو عبثيا جدا حين نعلم كم تعب شفاريتس في الوصول الى لشبونة هو و زوجته هيلين و التي عاد الى ألمانيا ليزورها فوجد نفسه مجبرا برغبتها في الرحيل أيضا فيشرعان في رحلة هروب طويلة تخللتها الكثير من الأحداث و التفاصيل برع شفارتيس في حكايتها للغريب متنقلين بين الحانات و الكؤوس , حكاية اتسمت برومانسية عجيبة في ظل النازية المجردة من كل العواطف, رحلة اعتبرها شفارتيس نوعا من الهروب من العنف السائد في ألمانيا و هروبا الى ذاته أيضا  في محاولة لاستكشافها من جديد و لعل الحديث عن الوجود و الله و الفن و المرض و الحب و غيرها من التيمات في الحكاية تجعلنا نفهم نفسيات الاوروبيين في تلك الفترة,و لا نبالغ أن قلنا أن اوربا ذاتها كانت تبحث عن نفس جديد و عن مكانة جيدة في العالم و هذا البحث بكل ما فيه من عنف دمر شعوبها, تلك الشعوب التي حاولت كل حسب عقليته و تاريخه الخروج من هذه القارة العجوز تاركا لنا نحن الجيل الجديد مهمة قراءة التاريخ بشكل مغاير من خلال الذكريات و الروايات وو الشهادات الحية والفن فنتحمل بدورنا جزءا من عبء الذكرى و صداها الذي يكون اشد وطئا من الذكرى ذاتها.
هناك من سيعتبر الرواية مملة نوعا ما , لكن هذا الملل يعكس بشكل ساخر الملل الذي عاشه كل المنتظرين  على أبواب القنصليات و الموانئ الباحثين عن طريقة ما للهروب , الملل هنا وسيلة أخرى من وسائل الكاتب التي قد يكون قد قصدها عمدا او بشكل عفوي لكنها منحتنا الفرصة لنحس بشعور المنتظر, شفارتيس أنتظر أن يحقق حلمه بالطريقة الأمثل و فعلا كان قريبا من تحقيقه لكن القدر هو من وقف ضده هذه المرة بموت حبيبته هيلين تلك المرأة التي جند كل عقله و قلبه حتى ينقذها من براثين أخيها النازي و الذي يمثل النصف الثاني  الكئيب لألمانيا, تموت هيلين بمرض السرطان و سيموت شفارتيس باعطائه لجواز سفره لشخص آخر غريب و يعود جوزيف و هو اسمه الحقيقي الى ألمانيا ليعيش قصة ألمانية مغايرة على أن يستمر اسم شفاريتس في الهروب الى أن يحقق حلم أجيال في الالتحاق بأمريكا الفتية.
الجميل في ليلة لشبونة أنها تَقرأ كل مرة بشكل مغاير و كل قارئ قد يجد فيها شيء من نفسه ,من ذكرياته و من محاولاته المستمرة التغلب على صدى الذكرى و صدى الأسئلة التي تأتي عبثا كما تمضي ايضا عبثا دون جواب.


Commentaires