مذكرات نـــوال 1


1

اللقاء



تأملت مليا قصاصة الورق بين يديي و اعدت النظر الى البناية الساكنة بشموخ امامي , كانت تحمل نفس الرقم المدون على الورقة اقتربت منها بخطى حثيثة لكن شعورا غريبا استوقفني بغتة كان يطغى على المكان تناقض غريب اجلت نظري في الحي محاولة ان اختزن كل تفاصيله في ذاكرتي العطشى دائما للتفاصيل مهما بدت للجميع تافهة و بسيطة ,بدت البناية التي اقصدها غريبة و شاذة عن باقي البنايات المستوية بابهة و فخامة في شارع بدا استثناءا في نظافته و ارصفته المعبدة,تسائلت كيف اغفلت البلدية هذا المنزل المتهالك و كيف لم يلحظ المقاولون الشرهون ارضه التي قد يبنى فوقها عمارتين في مدينة توقفت رئتيها منذ زمن عن التنفس لكثرة البناء, لم يكن المنزل فيلا بل عمارة صغيرة من ثلات طوابق بدت جدرانها تستغيث من البرد بعد ان عرت الرطوبة معظم الطلاء فكشفت عن الاسمنت الذي بدا يتساقط بدوره , منزل استعاض عن الشرفات بنوافذ طولية تكسرت معظم الواحها الخشبية فصبغ اصحابها الزجاج باللون الاسود انقبضت منه نفسي ,حاولت نظراتي اختراق اللون الاسود لاسبر اغوار هذا المنزل الكئيب الساكن بهدوء في شذوذ ملفت للانظار و كأنه فزاعة وضعت خصيصا لاخافة اي غريب قد تسول له نفسه دخول هذا الشارع المتانق,شرعت افكار سوداوية ترواح ذهني عن البنايات المسكونة تخيلت لوهلة ان كل الشخصيات المرعبة لستفن كينج قد تخرج مرحبة بي,طردت هذه الافكار من راسي و اتجهت نحو المدخل بسرعة و كاني اهرب من افكاري كان المدخل خشبيا ذو نقوش عربية جميلة دائرية متفاوتة في حجمها تتداخل فيما بينها مشكلة متاهة جميلة لا تعرف بدايتها من نهايتها,قرعت جرس الباب مرة واحد و كاني اخشى ان يهد صراخه جدران المنزل المتهالكة لكن صوته بدا اضعف من ان يسمعه اهل البيت ,تراجعت الى الخلف و تعلق بصري بالنوافذ عل احدهم يطل غير اني اصطدمت ثانية باللون الاسود بدا صبري ينفذ فطرقت الباب طرقا متواصل بلطف حتى سمعت صوتا متراخيا خلف الباب يقول:
_ من الطارق ..... من بالباب؟
_هذه انا سمية ب..
رد الصوت باستخفاف واضح:
_ سمية من..؟ لا نعرف احدا بهذا الاسم,
اجبتها بنفس الاستخفاف ممزوج بحنق:
_بالتاكيد سيدتي لا تعرفينني لكني على موعد مع السيدة نوال هل هذا منزلها؟
لم اسمع ردا لسؤالي .. بعد لحظات انفرج البيت بضع سنتمترات عن وجه سيدة طاعنة في السن تبدو في السبعين من عمرها بدت تجاعيد وجهها كدوائر الشجر تعد سنوات حياتها فاكتسى وجهها خشونة لم تخفف منها سوى ابتسامة جادت بها عيناها الصغيرتان قبل فمها الذي اختفى وسط التجاعيد الصارمة.
انزعجت من تأملي لها فسألت بنفس الاستخفاف:
_ هل انت من تكتبين في الصحف؟
هذه المرة اغضبني استخفافها بمهنتي فأجبت محاولة اخفاء غضبي:
_ هذه انا سيدتي...
فتحت السيدة العجوز الباب على مصراعيه و دعتني الى الدخول بمجرد ان دلفت صفقت الباب خلفي بعنف حتى خيل لي لوهلة ان المنزل تمايل لثواني فاصابني الرعب سرعان ما نسيته و عيناي النهمتان تجولان بشغف بارجاء المكان,لطالما آمنت ان التناقض و التضاد يكمنان في ابسط الاشياء و ان كل شيء يحمل في ذاته ضده لكن ما رأيته في هذا المنزل فاق بالتأكيد ايماني بنظرية التضاد,لم اجد أمامي ذلك التواضع و التهالك الذي يميز المنزل من الخارج و كأني دخلت للتو صفحة من صفحات تاريخ العرب في الاندلس ,بيتا عربيا مغربيا اصيلا سقفه بديع من الخشب المنقوش متحرك ففهمت أخيرا مصدر النور و الهواء و سرالنوافذ السوداء,ارضيته بالرخام الاحمر اضفى على المنزل دفئا غريبا و الحيطان مزينة بفسيفساء مغربية متناسقة يغلب عليها الاحمر و الاخضرو الابواب الضخمة توحي لك بالف حكاية و حكاية ,اخرجني صوت العجوز و هي تومئ لي باتباعها تبعتها في صمت و عيناي معلقتان بنافورة جميلة وسط المنزل بنقوش جبسية رائعة كان البيت يشبه لحد كبير حديقة ماجوريل في مراكش بنباتاته الاستوائية الغريبة و الاخرى التي نجدها في كل منزل مغربي,وقفت العجوز فجأة بقرب باب ضخم كغيره من الابواب فدقته بلطف,رد عليها صوت جميل رقيق:
_ ادخلي الحسنية..
قالت الحسنية مخبرة سيدة الغرفة:
_ لست وحدي سيدتي ..معي ضيفة تنتظرينها.. الصحفية.
سررت انها أخيرا منحت مهنتي الصفة التي تستحقها فابتسمت لها
_ تفضلا
اجابت سيدتها بلطف.
فتحت الحسنية الباب بهدوء و دعتني للدخول ترددت للحظات ثم دخلت فأقفلت الباب خلفي و انسحبت تاركة اياي وحدي مع انسانة لم اعرف عنها شيئا بعد.
********



الغرفة ,التي اصبحت لاحقا ادعوها البندورا لاسباب سأعرفها بعد مدة, كانت خافتة الاضاءة فاتجه بصري الى النافذة الوحيدة استرجي بعض النور كانت بدورها مطلية باللون الاسود فخاب رجائي ,بدت الغرفة بسيطة الاثاث لكنها توحي بذوق صاحبتها بحثت عن مصدر النور الخافت فرأيت شمعتين على طاولة صغيرة بقرب سرير متوسط الحجم يرقد فيه خيال فتسمرت مكاني لا ادري ما علي القيام به.
_ اهلا بك
جاء الصوت من الخيال الراقد فوق السرير فهممت بالاقتراب لكن لاحظت ان الارضية مغطاة بسجاد مغربي اصيل و نادر فلم اجسر ان اطأها بحذائي فازلته و اقتربت بحذر و سالتها:
_ هل انت السيدة نوال؟
اجابتني برقة و صوت مبحوح:
_ دعك من الالقاب و نادني نوال فقط حتى لا اشعر اني في استنطاق.
_لك ذلك ..بشرط ان تناديني سمية بدون القاب ايضا.
_ اتفقنا سمية..بقرب الطاولة على يميني هناك كرسي ..هلا تفضلت بجلبه لتجلسي ...
فعلت ما طلبته فلفنا صمت رهيب للحظات بدت لي ساعات لكم تمنيت ساعتها ان اصرخ قائلة حسنا ها انذا..حضرت حسب رغبتك..فما الامر اخبريني بسرعة و لننهي الامر لأعود للنور من جديد.. كانت الاضاءة الخافتة و الجو الكئيب للغرفة يخنقانني زاده تنفسها المتقطعة وحشة و غرابة ,و كأنها علمت بما يجول في خاطري:
_ اعذريني للاضاءة الخافتة ..فجسمي لم يعد يرغب بأكثر منها
سألتها بفضول:
_ لماذا؟
اجابت بحزن عميق:
_ستعرفين كل شيء في اوانه.
_حسنا ..هل لي ان اعرف كيف تعرفت علي و على رقم هاتفي..و لماذا انا من دون غيري من الصحفيين ؟
_عنوانك و رقم هاتفك منحهما لي صديق اسباني سبق ان تعامل مع مجلتكم و تعامل معك حين كنت تغطين احداث زلزال الحسيمة ..ربما تذكرينه خافيير..
صمتت منتظرة جوابي فأدركت انه كان سؤال فاجبتها:
_خافيير .. خافيير.. لا اذكره زلزال الحسيمة كان منذ ست سنوات..
فتحت مفكرتي الصغير باحثة على اسم خافيير فوجدته
_ صح خافير دل كوسطا كيف انساه اعددنا سويا مجموعة من التقارير عن التداعيات الانسانية لزلزال الحسيمة..هل هو صديقك..
كان في سؤالي نوع من الخبث لاني اعلم ان خافيير كان زير نساء و دون جوان الصحافة الاسبانية لطالما اصطدم بجديتي و انتقد افراطي فيها لكني لم اعر تلميحاته الواضحة اي اهتمام يذكر.
اجابتني بهدوء استفز خبثي:
_ بلى ..صديق قديم جدا.
_ لماذا اوصاك بي دون سواي؟
_حين ذكرت له رغبتي في كتابة مذكراتي نصحني بك , اخبرني انك لا تحاكمي البشر و تحسنين الاصغاء في حيادية و دون انفعالات لا تجدي نفعا و لا تغير واقعا, و هذا ما أحتاجه..لأفرغ كل الحروف و الكلمات التي تسد كل مسام جسدي..
قطع سعال جاف طويل كلامها فنهضت كي اساعدها رغم اني لم ادري كيف لكنها استوقفتني باشارة من كفها المغطاة و اومئت الي ان اجلس ففعلت,استمر السعال الرهيب لحظات ثم استطردت قائلة:
_ لا تخافي فقد تعودت عليه.
لم افهم و لم اسئلها فقلت:
_ لكني يا سيدتي..لا اكتب مذكرات ..فتخصصي التقارير و المقالات الصحفية .
_اعلم ذلك ..لكن..
صمتت فجأة فنظرت اليها مشجعة ,ادركت انها تراني لكني لم استطع ان احدد تقاسيمها خلف سلهام اسود اخفى جسدها و لف معظم اطرافها,طال صمتها فسألتها:
_لكن ماذا يا نوال؟
بعد تردد قصير قالت بثقة:
_ما سأخبرك به قد يكون أهم تقرير تنجزينه.
_ما الذي يجعلك متأكدة لهذه الدرجة, هل قرأت كل مقالاتي؟
قالت بخجل :
_ طبعا لا..لكن .. اسمعي سمية ..طبعا لك الخيار..ان تقبلي عرضي..او ترفضيه.. ان كان بك فضول ان تعرفي قصة امرأة مجهولة ترقد على سرير تحت سلهام اصبح هويتها..لو كان بك فضول ان تفهمي سر سيدة في الثامنة و الثلاثين من عمرها فضلت الاقامة الجبرية في منزل غريب تقتات بالماء و القليل من الضياء.. أخشى الناس خشيتي للنور..ان كان بك فضول ان تعرفي كل شيء من البداية الى نهايتي هذه..فاقبلي عرضي..اما ان كنت تعتقدين ان هذا الأمر قد يعطل مصالحك فاني اشكرك على زيارتك و اعتذر بشدة لازعاجك...
تأملتها باهتمام , حاولت ان اكتشف ولو جزء بسيط من ملامحها لكن السلهام اللعين كان مخلصا لرغبة سيدته في الغموض,كان في صوتها شيء مغر مس فضولي و حرفتي الصحفية ,اطرقت مفكرة في عرضها فاحترمت صمتي فتمكن منا مجددا صمت رهيب لم يقطعه سوى صوت انفاسها التي بدت و كأنها تبحث جاهدة عن الهواء.. بعد ثواني قليلة قلت باهتمام :
_لكن..يا نوال حديث الذكريات يطول..لن تكفي ساعات..
اجابت بهدوئها المعتاد:
_بالتأكيد
اعتدلت في جلستي كعادتي حين اهتم بموضوع جديد و قلت:
_اذن ما المطلوب مني؟
_زيارتي متى تسنى لك ذلك..و كل مرة تدونين فصلا من فصول حياتي .
الغموض الذي يلف المكان و السحر المشوق الذي ينبعث من ذاك السلهام دفعاني ان اقرر ساعتها:
_ حسنا ..موافقة .. بعد مداومتي سأمر عليك ساعة ساعتين على حسب مواعدي ..هل هذا يوافقك؟
تخيلت ابتسامة تعلو وجهها و هي تقول:
_ستجدينني دائما في انتظارك؟
_حسنا .. نشرع اليوم او تفضلين الانتظار للغذ؟
_لنترك الأمر للغذ.
_ اذن موعدنا غذا في المساء؟
_ موافقة ..مع السلامة سمية
_ اتمنى لك ليلة هنيئة .
_ لك ايضا.
هممت بفتح الباب فسألتني مستفسرة :
_سمية هل انت متزوجة؟
اجبتها بفخر و كأن عزوبيتي وسام يزين صدري:
_ ليس بعد..
_ هذا افضل حتى لا اشغلك عن اهلك.
_لا تهتمي ..الى اللقاء نوال..
_سترافقك الحسنية الى المدخل ..في امان الله.
خرجت و تساؤلات كثيرة تحيرني فمن هي نوال و ما قصتها و ما قصة السلهام و الغرفة االمظلمة؟ ليس علي سوى انتظار الغذ ربما اجد لتساؤلاتي ردودا تستحق المغامرة التي نويت ان ادخلها ربما تخرجني عن روتين التقارير المملة, فلأنتظر.




يتبع


تأليف : ايمـــــــــــــــــــــــــان




































































































































Commentaires