"سيظهر هذا الفيلم العذاب بين الجسم والروح حين يكون الله غائباً"
بيرجمان
دائما نجد البعض
يميز بين الفنون و يفاضل بينها أو بعبارة أخرى يفترضون أن بعض الفنون ليست ذات منفعة
أكيدة,الكثيرون يسألونني باستخفاف مستفز ما الفائدة من مشاهدة الأفلام أو قراءة
الكتب أو الإستماع للموسيقى أو توصيف مركز للوحة فنية,أحيانا أجيبهم إجابة الشخص
المولود بالدهشة أجيب بصدق و أثمن كل ما تمنحه هذه الفنون من إفادة و قد أستطرد
موضحة ما قد تضمنه من حياة توازي حيواتنا و أحيانا أكتم السؤال الحقيقي و الذي من المفترض أن يطرح بالمقابل,ما الفائدة من
إجابة سؤال كهذا؟
نحن نخشى أن نخرج
من ذواتنا بل نخشى أن نفهم هذه الذات و احتياجاتها الفعلية, نربكها في رغبات سطحية
لنتجاوز رغباتها الصادقة ,نعيش في ازدواجية ذاتية تحرمنا من النظر بعمق لأقصى زوايا
شخصياتنا فنفضل بالتالي العتمة و الكذب, نحن كاذبون جدا فيما يخص رؤيتنا لأنفسنا و
هذا ينعكس على رؤيتنا للآخر و رغبتنا في معرفة الآخر, كاذبون جدا في الحدود التي
تفصلنا عنه و التي ندعي بصفاقة أننا نعمل بجهد و بشكل يومي على تجاوزها و الاقتراب
منه,كل محاولاتنا الكلامية في فهم الآخر ليست سوى مواجهة مع الذات و صدامات داخلية
, الآخر هو نحن الآخر هو أنا الآخر ليس سوى مرآة متى دققنا فيها أكثر نكتشف ذواتنا
أكثر و أكثر لهذا نتفادى المرايا و اللغة ضمن هذه المتاهة ليست سوى وسيلة مبتذلة
لوصف هذه المعركة حين تلتقي الذوات محاولة تجاهل الفردانية.
إن الفنون ليست
إذن سوى إنعكاس لمرآة من تلك المرايا الكاشفة للذات, لكن بشكل أكثر خصوصية أو
بمعنى آخر أكثر سرية و أكثر إنكفاء على الذات فالآخر هنا قد يكون جمادا منتهيا لا
سلطة يملكها عليك إلا بالإشباع و قد يكون متحرك لكنه ذو بعد كوني يهتم بك لكنه
يجهلك , محاورة أبيقورية ناجحة نخوض بها التجربة متأكدين أن أقصى إرتجاجاتنا ستعود
إلينا و لن نفرط بها لغيرنا.
تبدو مقدمة طويلة
لفيلم سينمائي و قد يتساءل بعضكم ما علاقة كل هذا بالفيلم, لا إستطيع أن أجزم
بالعلاقة بين فيلم معنون بالصمت و بين الضجيج الذي خلفه في ذهني بعد الإنتهاء منه,
عموما فلنرجع لفيلم الصمت إحدى روائع
برجمان و السينما العالمية أنتج سنة 1963 ,
و يدخل ضمن ثلاثية صمت الله (من خلال زجاج
معتم / ضوء الشتاء- الصمت) تعتبر أفلام بيرجمان قمة في العمق و الأكثر
غورا في نفسية الإنسان يتبنى تيمات أساسية تتمحور حول الوجود,الموت,الإنسان,الخوف
, الوحدة ..و لا يخرج فيلم الصمت عن هذه التيمات, فيلم وجودي عدمي أبوكاليبسي,
الصمت هو السيد في هذا الفيلم و حين نقول الصمت نقصد به عجز اللغة و تعثر الحوار و
انتفاء التواصل بين الشخصيتين الأساسيتين أستير المثقفة و المريضة التي تمثل الوعي
و العقل الصارم و آنا الأم المتحررة الأصل
و الحقيقة,تشعر كل شخصية أنها إنطوائية تعيش في محاكمة ذاتية و جلسة مغلقة تحاسب
ذاتها لكنها تخشى أن يخرج صدى الحكم ليصل للآخر هذا الصراع الذاتي و المحاولة
المستميتة و العاجزة لتجاوز الذات بما فيها من عيوب و الإرتقاء لمصاف الشخصية
السوية الفخورة المتبرجة بهدف الوصول للآخر تنتهي دائما بالسقوط و الفشل,هذا الفشل
الذي يعود مجددا للحليف الدائم الصمت المكون الأساسي للعزلة.
الصراع بين
الأختين يبدو صراعا عاطفيا بين مد و جزر و الطفل الباحث عن المعرفة الفضولي ليس
سوى الشرارة الناتجة عن هذا الصراع و الباقية عليه متأججا,الطفل التائه بين ممرات
القطار و بعدها الفندق يرمز للبحث عن العمق عن ما تخفيه كل الممرات و الأبواب هو
المفتاح بشكل من الأشكال الذي يساعدنا على فهم ماهية الصراع.يعمل بيرجمان سينمائيا
و كأنه يعزف نوتة موسيقية ترتفع إيقاعاتها وتنخفض مع المضي في الأحداث الصمت الذي
يرافق الشخصيات في الفندق يناقضه الصخب خارج الفندق صخب يعزل الذات و يمنعها من
الإصغاء و التأمل, ركز بيرجمان في تفاصيل هذا الضجيج الذي لا يكاد تخلو منه
حيواتنا العادية لكننا لم نره بهذه الشدة التي صورها بيرجمان بحكم الإعتياد أو
بحكم النفي المتعمد كطريفة حياتية,يعتمد الفيلم كذلك على الرمزية التجريدية في التصوير و الصوت الدبابات , دقات الساعة ,
صور الجنازة, الأقزام و المسرح,باخ,الرسالة و لقطة الإغتسال كلها صور تحدث بلبلة
بذهن المشاهد الذي يحاول جاهدا فهم المغزى و تفسيرها ضمن سياق الفيلم و هي تبقى
بالتأكيد إيحاءات وجودية عن اليقين و الشك و لعل لقطة الإغتسال مريحة كنهاية لهذا الصراع بين المشاهد و المخرج.
يبدأ الفيلم بقطار
لا نعلم من أي محطة إنطلقت رحلته و بأي محطة المفترض أن الرحلة ستنتهي,بالمقطورة
نتعرف على الشخصيات الأساسية الثلاث و يطغى الصمت و يبدو المشهد متوترا و على صفيح
ساخن توحي بذلك آنا بالتذمر من الحرارة المفرطة( و هنا سنلاحظ أن النهاية ستكون
مختلفة و مناقضة لهذا المشهد) و يطغى الصمت , تبدو أستير شاردة بعينيها المغمضتين
في حين تتأملها آنا ثم تتجاهلها تشعر أستير بالمرض فيضطرون للتوقف بمحطة لا نعلم
هويتها و يستأجرون غرفتين بفندق نجهل معالم الفندق و نتعرف بالفندق على عجوز يقوم بخدمة
الأختين وإستير بالخصوص و أقزام مهرجين
بمسرح, العزلة التامة تقهر الأختين ليكون الفندق جحيما حقيقيا مع اللغة المجهولة
للمدينة التي نعرف فقط اسمها Timoka عزلة مركبة , انقطاع السفر و عزلة اللغة و
الفندق كانت الشرارة التي فجرت الوضع بين الأختين لتتم المواجهة المكشوفة بينهما و
تزيل كل أخت قناعها تبدي آنا رغبتها الجلية بالإنفصال عن أختها و العيش بطريقتها دون
قيود بل تجاوزت رغباتها إلى تمني الموت لأختها تغادر تاركة أستير وحيدة بالفندق و
تمضي في رحلتها بدون وداع , و تبقى أستير وحيدة مع اختناقاتها المستمرة و عزلة
الفندق و خادم لا يفقه لغتها و لم تعد أستير راغبة في شرح نفسها بالإشارات و كأنها
استسلمت لهذه العزلة التي قد تنتهي بالموت بعيدة عن وطنها و هويتها و الجذور التي
سببت هذه الأزمة.
برجمان في حديث مع
الصنداي تايمز فسر فيلمه هذا ( و أجد الأمر قاتلا لمتعة الفيلم) أكد ان الفيلم
يتحدث عن الحب الديكتاتوري و حب التملك و هذا النوع من الحب يقود إلى
الموت,بالنسبة لي لم تكن أستير و آنا إلا وجهان لشخصية واحدة الوعي و اللاوعي صراع
بين القيم و الرغبة بين العقل و الفطرة , و الصراع أيا كان المنتصر فيه سيكون
انتصارا مهزوما لإخفاقه في وصف الذات الكامل..يبقى وصفا أعرجا, و الإغتسال في آخر
لقطة لآنا محاولة أخرى لإيجاد سبيل لتطهير الروح, الروح Hadjek كانت
آخر كلمات أستير للطفل للمستقبل في رسالة كتبتها له قبل مغادرته بعد أن قرأتها آنا أغتسلت بالمطر و هنا تبدو نهاية
مناقضة للبداية التي بدت فيها آنا مختنقة بالحرارة وبخطاياها.
Commentaires
Enregistrer un commentaire