القنافذ هوية باردة


“الحياة تستمر ولايمكن أن ننتظر استكمال كل مقومات الفرح لنفرح.” 


غالبا حين أتذكر كل الروايات العربية التي قرأتها أو تلك التي تنتظر دورها على الرف أو تلك التي أتردد في   إقتنائها بسبب شكي المستمر في جاذبيتها الأدبية يحضرني دائما قول فوكنر "إنهم يكتبون كتابة جيدة ,غير أنه ليس لديهم ما يقولونه",تبقى هذه معضلة أغلب الروايات العربية المحشورة في زاوية الكتابة الجيدة و انتقاء اللغة الشعرية الجذابة على حساب المعنى و المضمون المبني على تفاهة القصة و المعالجة,فحين نلتقي بأعمال جيدة فهذا يبدو نصرا جديدا في معرض بحثنا عن الألق الذي فقدته الرواية العربية في السنوات العشر الأخيرة.
التقيت برواية القنافذ في يوم ساخن بآخر معرض بالدار البيضاء بجناح الكتاب الجديد كان العنوان هو أول ما لفتني فلم اكن وقتها أعلم عن فلاح رحيم سوى أنه مترجم لعمل لتوماس مان و لا شيء غير هذا تساءلت ما الذي تفعله القنافذ عادة في يوم ساخن هل تخفي جسدها في جلدها الشوكي مخيفة الحر و الآخر  و تنعزل أم تبحث عن مكان بارد لو وجد لم أنتبه أن تساؤلي ساعتها كان مسموعا ليقترح علي العارض أن أقتني الرواية واعدا إياي بأنني ساشكره لو التقينا المعرض القادم أخذتها بعد تردد قصير بسبب غلائها و ليس بسبب انعدام الثقة الواجبة تجاه العارضين.
هل يمكننا اليوم أن نتحدث عن شكل جديد لرواية الشتات , روايات المنفى ليست بالشيء الجديد و أدب المنفى عموما كان موجودا من فترة طويلة سواءالمنفى القصري أيام الاستعمار أو بسبب الأنظمة الدكتاتورية التي توالت على العراق و سوريا بالخصوص لكننا اليوم نصادف شتاتا مختلفا سببه الحروب و القتل حسب الهوية و المزاجات الطائفية و بعض الأجندات غير المعروف جذورها,فلاح رحيم يحكي عن جرح المنفى لعراقيين اضطرتهم الحرب أن يبحثوا عن أوطان جديدة يعالجون فيها همومهم و يهربون اليها من الخوف و الإحساس بالعجزسليم المتخصص باللغة الإنجليزية الذي عاش لفترة بليبيا مترجما بإحدى شركات النفط هناك و الذي يختار الانتقال لسلطنة عمان كحلقة جديدة في الهروب يلتقي بمدينة صور بمجموعة مختلفة من الجنسيات و كل شخصية من الشخصيات المركبة و البسيطة حسب فحوى السرد تحكي شتاتا مختلفا بخلفيات مختلفة غربية و عربية يوسع فلاح رحيم هم المنفى ليشمل العالم ليشمل الفرد المنتمي و اللامنتمي الراغب و المضطر المستفيد و الراضخ فقط للضرورة مجموعة أساتذة بمدينة عمانية صغيرة و كلية و يصغر النطاق المكاني من العالم لدولة لمدينة لكلية لقسم للفرد و هو سليم تراتبية أبدعها فلاح رحيم للتحدث عن الفرد كمكون للجماعة وكباحث عن الذات بمعزل عن هذه الجماعة و لعل إختياره للقنفذ كتشبيه لهذا الفرد يبدو منطقيا و مثاليا  كما وضحه بداية باقتباسات لشوبنهاور فالخوف من الآخر يجبر سليم على المنفى و بالمنفى يختار العزلة  كمنفى متواز و حين يغامر بنفسه خارج هذه الوحدة الإختيارية ليثبت لنفسه و لغيره قدرته الإجتماعية يصطدم بالندم و المعاناة فرفض إريكا له بداية و المرض الذي انتقل اليه من ساندرا و النفور الذي تلقاه من مواطنه البعثي و غيرها من الأحداث التي سردها فلاح بإقتدار و سلاسلة تتماشى مع السرد تبين هذه الجدلية العزلة و المجتمع  الأنا و الآخر,كان إختيار رحيم لعمان كحيز مكاني اختيارا موفقا بإمتياز فعمان كما يعرف عنها الحيادية و الهدوء في المشهد العربي و الإقليمي هكذا بدت في الرواية في حين الصراعات و الحوارات و المآسي نجدها في الوافدين اليها من مختلف الجنسيات و تبدو الصراعات بين الشخصيات العربية تعكس بشكل كبير الصراعات الموجودة فعلا على الواقع في حين كان الغربي هنا محفز للصراعات أو رؤية منتقدة أو مدافعة على المشرق .
المميز في كتابة فلاح رحيم قدرته على تضمين السياق السردي أمورا قد لا يحتملها السرد عموما و قد تكون ثقيلة و مقحمة إلا أن فلاح كان مقتدرا في تضمين السرد الروائي فنونا إنشائية  اخرى كفن المقالة و فن الرسالة و قد جاء التضمين مثريا للسرد و مفسرا للوضع العراقي بشكل مدروس و مختصر و كاشفا لشخصية شهاب المناقضة لشخصية سليم في فهمه للمنفى و العودة للوطن و كانت أيضا شخصية تعكس الوضع العراقي البعيد مكانيا عن سليم رغم اتصالاته الدائمة بأهله و التي لم تخرج عن النطاق المكاني الموجودة فيه العائلة.
يحسب لفلاح رحيم أيضا بالإضافة لعنايته القائقة في اختيار الحيز المكاني قدرته على إختيار الشخصيات مع حرصه على رمزية الاسماء كشخصية حاكم البعثي و البتول المراة العراقية التي لم تستجب لمحاولاته المتواضعة لاجتذابها و فرحان الذي يأتي كتضاد يحتاجه سليم للتعافي من رغبته في الحياة حرص فلاح في اختيار شخصياته العربية الرجالية عموما نظرا لافتقار الرواية للشخصيات النسائية العربية الرئيسية يقابله عشوائية الاختيار في الشخصيات الغربية و ربما يكون الأمر إقرارا من فلاح رحيم لتدني أهمية الحضور الغربي في الوجدان العربي و اعتباره محفز فقط و ليس أصلا متجذرا,و أخيرا تأتي نهاية هذا التشرذم الوجودي كحالة من اللانتماء للمنفى و للوطن ليبدا سليم منفا مغايرا منقا خارج المنفى فتتعدد متاهة المنافي و تزداد الهوة عمقا بين الذات و الإختيارات المرجوة منها و المطلوبة  حقيقة ووجودا منها لينتهي فلاح رحيم بخلاصة أن الموت يكشف في النهاية سريالية الواقع و يقف ندا لند لعشوائية الفوضى,فموت الصديق و موت الوجه الآخر للذات سيبقى بالنسبة لسليم أحجية و سر وجودي يستعصي على الفهم.

Commentaires