حرب نهاية العالم يوسا أستاذ التخيل التاريخي





من الصعب أن تختم هذه الرواية بسلام روحي,بل من المستحيل أن تضعها مكانها على الرف و تنتقل الى شيء آخر بكل يسر فهي من الروايات التي لا تنسى بل تحدث داخلك صخب يعبث في عقلك بأسئلة قد تجد لها أجوبة تسعفك و قد تتوه الأجوبة  بين عقود التاريخ,و لقد صدق المترجم حين حذرنا منها بقوله هي رواية مزلزلة و مبلبلة, تحمل عن عنوانها كل ثقله فهي حرب و هي تختصر العالم و تجعلنا ننتقل داخله بتوتر بين حب و كراهية عنف و هدنة تستمر حتى آخر صفحة ,واقعية سحرية بعيدة عن التكلف و الزخرفة, سلسة حتى لو تجاوزت السبعمائة صفحة يشحذ فيها القارئ كل مسامه حتى لا يفوته حدث أو تفصيل لينسجم نهاية مع النسق التاريخي و الروائي الذي اعتمده فرغاس يوسا..
هي رواية تكرس حضور يوسا ضمن رواد الأدب اللاتيني و ان كان يعترف بماركيز كالأديب الذي وضع حجر الأساس للأدب الأمريكي الجنوبي بروايته مئة عام من العزلة فقد ساهم بدوره في تحصين هذا الأساس برواية حرب نهاية العالم وفي كلا العملين و أعمال سابقة له و لغيره من الأدباء اللاتينيين كرسوا مصطلح سيظهر لاحقا كنتيجة لابداعاتهم و هو التخيل التاريخي الذي يبتعد كلية عن الرواية التاريخية بطريقة ابداعية ساخنة تبعد عن التاريخ ركوده و جموده, يقول يوسا في حواره مع احدى الجرائد الفرنسية لوفيكاغو "نحن نؤلف روايات ليس فقط لنحكي واقعا موجود بل لنغيره مضيفين له شيئا ما" و يتابع قائلا :"الأدب هو يوتوبيا الواقع" فهو لا يحكي لنا واقعا متوارثا محققا و درسا تاريخيا أكاديميا بل يفتش بدقة حاو محترف على اسقاطات تجمع الماضي بالحاضر في توليفة سردية غالبا ما تخرج بنتائج تنعكس على المستقبل,و هذا ما عهدنا عليه يوسا في غيرها من أعماله كحلم السلتي و قصة مايتا فله قدرة على تطويع التاريخ كمادة جيدة للرواية كجذع لها و قاعدة و يتحرر بعدها في بناء الجدران و السقف و النوافذ من الخيال فقط معتمدا على أدواته الأساسية في  التخيل من تفاصيل  وشخصيات و حوار, أدوات تجعلنا نشكك في مدى واقعية الأحداث بل أحيانا نعتبرها مجرد فانتازيا أنجبهاخيال الراوي لنعود في النهاية جازمين أن الحدث حقيقة و مجبرين بقوة
الاقناع الروائي أن نتصور حدوثها بالطريقة التي ذكرها يوسا.



ينتقل بنا يوسا هذه المرة الى البرازيل في فترة التحول من الملكية الى الجمهورية حوالي سنة 1870في بلدة صغيرة شمال البلاد تدعى كاندوس بمقاطعة باهيا حيث تعيش الملكية آخر زفراتها,تتعاظم في هذه البلدة النائية شعبية رجل يعرف بالمرشد و اسمه الحقيقي انطونيو فيسنتي مانديس ماسييل أو اختصارا أنطونيو كونسيليرو (المرشد),رجل ينتمي لأسرة فقيرة عانت من تسلط الاقطاعية و جبروتها فيرحل بحثا عن عالم طوباوي يتساوى فيه الفقير و الغني فابتكر دعوة دينية جديدة تقول كالأديان السائدة بفرضية نهاية العالم و بلوغ الخلاص باحلال العدل و نهاية الظلم,شخصية تأخذ من المسيح عيسى الكثير من ملامح التقشف و الزهد وقدرته على الشفاء و رحلته مرفوقا بحوارييه لاقرار السلام الابدي.. يتمتع المرشد بكاريزما وبقدرة خطابية مكنته في ظرف قصير من حشد تابعين له من العصابات و الفقراء والعبيد و النساء القاتلات والعرافات و ذوي العاهات الخلقية ليرحلوا بجلال بحثا عن موطن يؤسسون فيه مملكتهم بعيدا عن الجمهورية الملحدة الشيطان..ثورة بدأ صداها يكبر ليصل مسامع غاليليو غال الثوري الشيوعي الأوروبي الذي يحاول الوصول لكاندوس للاشتراك في الثورة جازما أن لها نفس أهداف ثورته,اراد المرشد حكما مستقلا عن الجمهورية و في نفس الوقت لم يكن له تفضيل للملكية فبدأت المناوشات الأولى لاقرار نظامه الخاص ببلدة كاندوس, لم تلتفت الجمهورية الفتية لخطر المرشد بداية ثم جزمت بضرورة اقتلاع الفتنة فأرسلت اشرس جنرالاتها تباعا للقضاء على الثورة في معقلها فيخوض الطرفان حربا شرسة عانى فيها الطرفان من قسوة الجغرافيا و عبثية القيادات لتنتهي بمذبحة عرفت في التاريخ بمذبحة كاندوس  لام فيها  الجمهوريون المرشد المختل , هنا و كعادة يوسا لا يتدخل لمحاباة طرف دون آخر بل يراقصنا التويست فيجعلنا مع طرف تارة و مع الآخر تارة أخرى أو في حالة متطرفة نكره كلا الفريقين,كل شخصيات يوسا في هذا العمل مختلة بعيدة عن المثالية و هذا ليس بالأمر الجديد في رواياته فقد عهدنا رغبته المتوحشة في مسخ شخصياته, فلم أفهم مثلا لماذا يعاشر غاليليو غال جوريما و هو الزاهد في الجنس من سنوات أو لماذا يعاشر البارون خادمته رغم حبه الكبير لزوجته ستيلا,ربما أراد يوسا بأسلوبه هذا انتقاد الاشتراكية و الملكية معا بمنظوره 
 أنطونيو كونسيليرو

الخاص..ربما.
تصوير يوسا للأحداث و تركيزه على التفاصيل مهما بدت جانبية أو صغيرة جعلنا نعتقد اننا نشاهد فيلما سينمائيا ينضح بالصور المعبرة و بالكآبة و السوداوية و الوصف الذي يركز على الشخصية و بعدهاالجسدي و النفسي و الاجتماعي و الفكري متتبعا بداياتها و حياتها و نهاياتها و هذا الوصف جاء على حساب المكان و هذا يعود لما ذكرناه سابقا من كون يوسا يهتم باسقاط الماضي على الحاضر فطبيعة الانسان ثابتة دائما مهما بدت البيئة متحولة. و كجرد بسيط للشخصيات نستطيع ان نوضح لعبة يوسا السياسية لايصال رسائل معينة ضمن اطارأدبي فهو يتحكم في الشخصيات فيجعل منها فاعلا مؤثرا في الأحداث و ناتجا عنها في ذات الوقت كقطع دومينو كل قطعة تنوء بحملها على أخرى لتنتهي جميعا بالسقوط , و ومن أبرزهذه الشخصيات و منظوري الشخصي لها :
المرشد : يمثل لعبة الدين في تاثيرها على الجماهير من خلال الخطاب و تفعيل الأسطورة و الاعتماد على نقط الضعف الخلقية و الأخلاقية لتابعيه.
غاليليو غال : الباحث عن ارساء الاممية الاشتراكية و تهجيرالمفهوم الأوروبي للثورة الى أمريكا .
الجمهورية ممثلة في الضباط :الدولة البوليسية التي تختزل كل مفاهيم الديكتاتورية اللاتينية.
انتونيو فيلانوفا: الراسمالية الجديدة المخلوقة من العدم و لعل في بقائه حيا تلميح واضع لغلبة هذه الأخيرة على العالم الآن.
أبوت جواو:العصابات المنظمة و الفوضى و هو أيضا من الناجين من المذبحة اسقاط آخر على ما يحدث اليوم .
الصحفي قصير النظر: اتضح انه شخصية حقيقية حتى لو تفادي الكاتب مناداته باسمه مكتفيا بالوصف و هو وصف لم أجده مناسبا للصورة , الصحفي يمثل السلطة الرابعة البروباغندا السياسية و لعله سخر من الصحافة باضفاء صفة قصر النظر على الصحفي,نجد وجوده ضروري في القسم الاخير من الرواية لتحقيق ما حدث في المذبحة في حواره الطويل مع البارون الذي شابه نوع من التقرير و توضيح المواقف...اسمه الحقيقي هو Euclydes da Cunha و قد كتب كتابا باسم Os Sertões أرخ فيه لمذبحة كاندوس





البارون :الاقطاعية و الملكية و الحنين الى الماضي.
و غيرها من الشخصيات الأخرى التي بشكل أو بآخر تدفع بحدث أو تقلل من أهميته او تنهيه لينتصر يوسا مرة أخرى في لعبة التكهنات.
و في النهاية هل كان الأمر يستحق المجازفة من طرف المرشد؟ و هل كان المرشد مختلا عقليا و منتقما أم كان صوتا من السماء ؟و هل وقعت الأحداث كما وصفها يوسا و كما سجلها التاريخ أم أن التاريخ يصنعه المنتصر و الأديب ويبقى الواقع أمرا تلفه المفارقات؟و هل حرب نهاية العالم تكرس لمفهوم نهاية التاريخ بانتصار الجمهورية كنمط أخير للمدنية على حساب الدين ..كلها تبقى اسئلة مفتوحة نجح يوسا في طرحها و على القارئ تدبرها.

بعض الفيديوهات عن حرب كاندوس و شخصية المرشد



Commentaires