التائهون وقائع البحث عن صداقة ضائعة



التائهون آخر رواية مترجمة للروائي الفرانكفوني من أصل لبناني أمين معلوف الحاصل على جائزة الكونكور عن رواية صخرة طانيوس و العضو العربي الثاني في الأكاديمية الفرنسية بعد الجزائرية آسيا جبار ,ترجمتها المبدعة نهلة بيضون و نشرتها دار الفارابي في نسخة أنيقة كما عودتنا دائما , الاسم الأصلي للرواية  Les désorientésيحمل دلالات أكبر ووفقت بيضون في اختيار أقربها ,فمن هم التائهون ,و لما ضلوا طريقهم؟ و كيف أراد معلوف لهذه الرواية أن تكون؟
يبدأ الكاتب روايته بجملة قد تكون غير مفهومة للقارئ سيفهمها مع توالي الصفحات و خصوصا آخرها "أحمل في اسمي ولادة البشرية ,غير أني أنتمي الى بشرية تندثر" هذا ما قاله آدم الشخصية المحورية في هذا العمل و لم يأت اختيار معلوف لاسم البطل اعتباطيا لما يحمله هذا الاسم من دلالة دينية تجد مرجعيتها في أغلب الديانات المعروفة ,آدم  المقيم في فرنسا المؤرخ اللبناني و الباحث الذي يفكر كتابة و المولع بشخصية أتيلا الهوني البطل الذي لفظته روما فعاد اليها مستعمرا,و لم يخف معلوف اسقاطه لتاريخ أتيلا على وضعية المهاجر العربي لأوروبا بين القبول و الرفض العزلة و الذوبان, لهذا بدت أزمة الهوية أكثر وقعا لدى آدم عن غيره من شخصيات الرواية وقد يعود ذلك للتشابه بين آدم و معلوف هو الأمر الذي لم ينكره هذا الأخير في معرض حديثه عن الرواية.
تقع الرواية في ستة عشر فصلا (أو يوما) و هي عدد الأيام التي تجري فيها الأحداث و يتناوب الكاتب مع الشخصية الرئيسية في السرد هذا التناوب بين الراوي البعيد و الآخر القريب جعلني أتوه أحيانا بين شخصية الكاتب و بطل روايته و لم ينقذني من التيه الا ضمير المتكلم عبر مذكرات حملها آدم يدون فيها يوميات قصته,تبدأ وقائع الحكاية باتصال ليلي يحثه على العودة من منفاه للوطن لوداع صديق قديم يحتضر و بعد تفكير يذعن آدم لنوستالجيا المهاجر و يقرر العودة لقضاء يومين لتطول الرحلة بسبب رغبته في لم شمل الأصدقاء القدامى من شتى الطوائف و المهن ,محاولة آدم ستنجح فنتعرف بالتوازي مع الأحداث الحاضرة على ماضي الشلة و رحلة الشتات التي تلت الحرب الأهلية اللبنانية( و لا نجد ذكر صريح للبنان الا بالاستعارات التاريخية و المكانية ),معلوف كان ذكيا في اختيار شخصياته و تحميلها رسالة من رسائله السياسية و قراءته للأحداث الماضية و الحاضرة  نستعرض باختصار لهذه الشخصيات مع رؤيتي الشخصية لحضورها و رمزيتها:

آدم: المؤرخ و يوصف عادة المؤرخون بالثقة فكل ما سيقوله آدم موثوق و مؤكد ,آدم وحيد والديه سيعاني من يتم بعد وفاة والديه بحادثة جوية فيخرج من بيته (الجنة) ليتربى بعيدا عنه,  فهو تمثيل لبداية البشرية و بالتالي كان بديهيا أن يتحمل عبء جمع أصدقاء من أجل احياء أو محاولة احياء الصداقة(البشرية)
ألبير :المسيحي المنعزل الانطوائي بسبب ميوله المثلية و هو سبب سنعرفه متأخرا في الرواية,شعوره بالاضطهاد و انعدام الهدف تدفعه للانتحار و سينقذه من هذا الانتحار عملية خطف معتادة آنذاك في لبنان لكنها ستخرج من الاعتياد بنشأة علاقة بين الخاطف و المخطوف مزيج بين متلازمتي ليما و ستوكهولم فينقذ الخاطف ألبير من اليأس ويغير فكرته السوداوية و يسافر ليقيم في الولايات المتحدة الأمريكية كعالم مستقبليات ذو حظوة.
نعيم : الصحفي اليهودي الذي يقنعه والده بضرورة الهجرة لما تعانيه طائفته من تمييز فيختار البرازيل منفى له و ينجح في عمله و حياته , اليهودي الأكول الذي لا يشبع و في هذا ايحاء ساخر من معلوف.
مراد و زوجته تانيا: مراد الكتوم الصريح و الواضح الأهداف و الأخ الأكبر نوعا ما لباقي الشلة فضل البقاء في الوطن لحماية بيته كرمز للوطن ككل و هذا ما ذكرته تانيا بوضوح لآدم معلقة أنه كان من الضروري على أحدهم أن يبقى للحفاظ على وطن قد يعود اليه التائهون.
بلال:الشخصية الشبح ,الأديب الذي أساء الاختيار بدخوله الحرب من أجل الأدب , في هذا تلميح صارخ لمعلوف يبرر فيه اختياره لمنفاه من أجل حماية قلمه من الدم ,بلال سقط مع أول قذيفة تاركا قلبا مكلوما قلب سميراميس.
سميراميس: المرأة الفاعلة في غياب تأثير واضح لباقي نساء الرواية, سميراميس المهاجرة من مصر بعد حكاية غريبة لأبيها الذي هاجر في الوقت المناسب مع ثروته لتفادي أثر ثورة يونيو, سميراميس الحمامة في الحضارات العراقية القديمة , الحضن و الألم الذي يوجع كل مغترب و يجبره على العودة للوطن و الارتماء في أحضانه دون نسيان الرفيقة الغربية ايحاء من معلوف للازمة شرق غرب
نضال:أخ بلال المسلم المتعصب و الذي ينتقد بفظاظة هروب مواطنيه من لبنان, جرى بينه و بين آدم حوار طويل حول قضايا المنطقة خصوصا الصراع العربي الصهيوني و أظهر فيه معلوف رؤيته السلمية للقضية بعدم تغليب جانب على الآخر.
رامز:المهندس المسلم الذي وقف مرة ثانية على رجليه بعد خسارة شركته في الحرب ليكون من أثرى أثرياء لبنان و هي الصورة النمطية لمعظم رجال الأعمال اللبنانيين و قد يكون رفيق الحريري مثال واضح لهم .
رمزي : شريك رامز في عمله الذي يفضل الرهبنة بعد وفاة زوجته و اكتشافه مدى عبثية الاشتراكية  و حسن توزيع الثروات في زمن لا يعترف الا بالأقوى.
هؤلاء هم التائهون و الغريب أن كل شخص منهم عانى تيها خاصا به في وطنه الأم آدم و خروجه من جنته الصغيرة بعد وفاة والديه ألبير و عزلته بسبب مثليته نعيم عزلته بسب دينه و ارتباطه باسرائيل سميراميس بعد هجرتها من مصر و ضياع حلمها بأن تكون مطرب ..فالتيه الأول قاد الرفاق الى تيه أكبر هذا هو تبرير معلوف للمنفى.
هذه الرواية حبلى بالرسائل التي أراد معلوف ايصالها للعالم ,فمعلوف أعتبر أن سياسة اللاعنف هي الفيصل في حياة هادئة و حتى نصل لهذه الحياة لا مجال لوجود الأديان كمؤثر على الاشخاص الذين يخلطون بين الدين و الانتماء للطائفة فتختلط القومية بالديني لتنتج غلوا و عصبية تنتهي غالبا بالدم  يقول معلوف:"هنا في المشرق لا يكترث الناس للعقائد الايمانية بل الانتماءات فطوائفنا عشائرغلونا الديني   شكل من أشكال القومية..""القيمة السامية هي العلمانية بالنسبة لصديقنا الذي هو فرنسي أكثر من الفرنسيين.اذا حاد عنها العالم ,وعاد الى  كنف الدين,فهذا يعني أنه تقهقر.." يحاول الكاتب في رواياته ايصال لغة من اللاعنف و التسامح الديني و هي تيمة نجدها أيضا في رواية ليون الافريقي حين اعتنق البطل دايانتين دون أن يؤثر ذلك على رؤيته للأشياء, فلماذا اختار التائهون لحل هذه المعضلة ألبير يجيب على هذا السؤال في معرض جوابه على تساؤل  دولوريس رفيقة آدم حين سألتهم "ما الذي جمعكم ؟ فيقول " رامز أعز صديق لي بين المسلمين, و نعيم أعز صديق لي بين اليهود,و آدم اعز صديق لي بين المسيحيين.و بالطبع لم يكن جميع المسيحيين مثل آدم و لا كل المسلمين مثل رامز و لا كل اليهود مثل نعيم.و لكني كنت أرى أولا أصدقائي.كانوا كمامة عيني,أو اذا شئت كانوا الأشجار التي تخفي عني الغابة" فلبنان أو أي بلد يحتاج لأشخاص يحاولون بقدر الامكان نسيان "الأنا" لاحترام" الآخر" و قد نجح آدم في جمعهم في النهاية لكن النهاية كانت مأساوية و صادمة و هذا ما يقوله معلوف على لسان آدم فالعالم ومهما فعلنا سينتهي قريبا فلسفة تشاؤمية هيجيلية بامتياز يحاول الكاتب أن يبلغنا اياه بألطف الطرف و بعمل أدبي أغرق فيه معلوف على غرار كتابه بدايات في كم من الرسائل الطويلة  تحكي قصة داخل القصة أو توضح مفهوم و هو أسلوب يزداد اطنابا في الحوارات الطويلة التي جمعت آدم بباقي الشخصيات و التي بدت أحيانا خارج سياق الحدث الذي يتطلب منحى آخر للحوار كحواره مع نضال ( و أجد شخصية نضال في حد ذاتها مقحمة ).
معلوف في هذه الرواية يتسائل هل من المعقول أن يبقى العنف مرتبطا بالديانات لكنه في ذات الوقت يقول بنهاية التاريخ و اندثار البشرية ,قد بدت نظريته هذه اقرب لنظرية فوكوياما خصوصا مع الاقتباس الذي استهل به روايته "كل ما تمسه القوة أيا كان التماس فاللطخة هي نفسها سواءا كان أعتدى المرء أم تعرض للاعتداء.." سيمون فايل الفيلسوفة المتشائمة,يضعنا معلوف هنا أمام اشكالية محيرة فاذا كان اللاعنف مرتبط بسقوط الدين فالبشرية ستنتهي بهذا السقوط؟فما الذي أراد معلوف أن يصل اليه بالتحديد خصوصا بالمشهد التراجيدي  الأخير في الرواية (ان كنت لم تقرأ الرواية بعد فلا تستمر) و لماذا اختار هذه النهاية دون سواها رغم أنه يلعب بالمتخيل و ليست سيرة ذاتية و ما المقصود بتلك الاختيارات ؟
تفاعل القارئ مع الرواية بمنتهى الحماس و الاندفاع ليصل الى نهايتها المحتملة و هو لقاء الأصدقاء و لم الشمل من جديد لكن معلوف فاجأنا بحادثة سير يموت فيها رمزي( الرمز الديني)حرقا و بقاءآدم معلقا بين الحياة و الموت,حادثة تثيرأكثر من سؤال لماذا أختار رمزي دون غيره للموت و لماذا المحضر لم يذكر اسم باسل و اقتصر على رمزي فحسب فهل هذه اشارة أن الدين سيؤدي الى التهلكة و أن الدين هو سبب مآسي البشر و ليس العكس,تزداد سخرية معلوف في هذا المشهد بتعليق حياة آدم (البشر)على شيء ما لم يذكره معلوف لكن بالمقابل ترك هذه الحياة معلقة بفرنسا و ليس الوطن الأم (الشرق) , وهل آن الأوان للانسان أن ينتهي ليفتح لمجال لفاعل آخر في اللعبة أم قدره الاستمرار رغم كل العبث الموجود في هذا العالم؟
التائهون قد تحتمل أكثر من قراءة فهي ليست رواية بسيطة تنتهي بمجرد اغلاقها بل تفتح مجالا شاسعا للنقاش  قد يكون نقاشا بيزنطيا كتلك النقاشات التي جمعت البيزنطيين كما اعتاد الجميع أن ينادي التائهين و قد يكون نقاشا حميدا ينتهي بحلول لاحياء  الانسانية.
 
غلاف النسخة الأصلية


Commentaires